في السبعينيات من القرن العشرين ظهرت على أحد موديلات سيارة مشهورة في أميركا مشكلة خطيرة بسبب عيب بالتصنيع، حيث كان خزان الوقود ينفجر بسرعة عند اصطدام السيارة من الخلف مخلفا قتلى وجرحى. ماذا فعلت الشركة مع هذه المشكلة؟ تعاملت بالعقلية الأميركية الكلاسيكية التي تنطلق من فلسفة جيرمي بنثام (فيلسوف انجليزي توفي عام 1832، مؤسس الفلسفة النفعية في الأخلاق، والتي تنكر وجود القيم وترد كل شيء للمنفعة، بحيث يكون الخير هو ما يحقق المنفعة، والشر هو الذي يسبب الألم)، قامت الشركة بعملية «تحليل للخسائر والمنافع» والتي تشكل عصب فلسفة بنثام النفعية وبموجبها يتحدد ما هو الخير وما هو الشر، فوجدوا أن تكلفة وضع قطعة حديد لحماية خزان الوقود عند الاصطدام سيكلف 11 دولارا لكل سيارة، وكان عدد السيارات المتضررة حينها 12 مليون سيارة، وبالتالي فالتكلفة ستكون 132 مليون دولار. في حين لو تركوا السيارات بلا إصلاح، وبحسب التقديرات والاحصائيات لعدد الحوادث، جاءت التقديرات انها ستكون 180 حالة وفاة و180 إصابة بجروح، قدروا لكل حالة مبلغ تعويض 200 ألف دولار للوفاة، و67 ألف دولار للاصابة، إضافة لمبلغ 700 دولار تعويض إصلاح لعدد 2000 سيارة المحتمل تعرضها للحوادث. والمحصلة، ستكون مجموع خسائر الشركة في هذه الحالة حوالي 49 مليون دولار فقط، وبالتالي ـ ووفقا للفلسفة النفعية ـ قررت الشركة عدم إصلاح المشكلة وانتظار مقتل وإصابة الناس ثم تعويضهم لأن التكلفة حينها ستكون أقل!
***
الفلسفة النفعية حقيقة وليست خيال، نعم هذا التفكير المرعب الذي يشمئز منه أي إنسان لديه حد أدنى من الضمير هو واقع وهو الذي تسير عليه أميركا وأوروبا وهم يتفاخرون به ويتفاخرون بجامعاتهم التي تخرج أفضل العقول «النفعية» المختصة بتحليل الخسائر والأرباح، والمثال السابق مجرد مثال بسيط لما يجري في أميركا وأوروبا فعليا كل يوم، فضلا عن المثال الصارخ الذي يتكرر كل عام مع مجموعة شركات فيليب موريس لصناعة السجائر، والذي يقول للعالم كله بكل تبجح، الفلسفة النفعية بحسابات الربح والخسارة ستبقى تحتقر البشر وتحدد لكل إنسان قيمته بالدولار. الخطير، أن الفلسفة النفعية التي تهيمن على الرأسمالية الجشعة في الاقتصاد، هي ذاتها التي تعمل من خلال الفلسفة البراجماتية في عالم السياسة. ولذلك، لا تستغربوا ما يجري في سورية ولماذا تستمر آلة القتل بحصد أرواح آلاف البشر وتشريد الملايين للعام الخامس في ظل وجود أمم متحدة ومواثيق ومحاكم جنائية دولية..؟! والسبب بوضوح أن «صناع القرار» البراغماتيين في السياسة والنفعيين في الاقتصاد أجروا عمليات تحليل للخسائر والأرباح، ووجدوا أن استمرار القتال بهذه الصورة «أفضل» وأكثر ربحا لهم. وتذكروا، أن المتخصصين بتحليل الخسائر والأرباح بهذه الطريقة المتوحشة يسمونهم «خبراء» ويتقاضون أعلى الأجور مقابل ما يقدمونه من «تسعيرة» لحياة البشر وبما يوفرونه من ملايين على أصحاب الشركات ومكاسب ديبلوماسية للسياسيين. نعم هكذا تجري الأمور في هذا العالم القبيح الذي هدمته فلسفة جيرمي بنثام النفعية وما قدمته للرأسمالية الجشعة والبراغماتية البشعة من مفاهيم متوحشة حتى غدا عالما ميتا لا قلب له ولا روح!
[email protected]