عندما سُئل فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة أبو حيان التوحيدي أن يكتب في وصف الغريب قال «.. وكيف أخفض الكلام الآن وأرفع، ما الذي أقول وماذا أصنع، وبماذا أصبر، وعلى ماذا أجزع؟..».
رغم الفارق الشاهق، لكن هذا ما شعرت به حين عزمت الكتابة عن د.فؤاد شهاب وكتابه «حبيبتي ابنتي سميتها مريم».
***
التقيته مصادفة في مطار شارل ديغول في باريس، ومن كرم الله علي أن كان مقعدي بجانب مقعده، فكانت الساعات الست وهي مدة الرحلة حديثا معه لن أنساه، بكل ما فيه من ابتسامات ودموع، فإليه شكر أعجز عن وصفه، بقدر ما ترك في نفسي من أثر عميق.
باختصار.. د.فؤاد شهاب نموذج غير عادي في عالمنا القابع في حفرة الماضي، بكل ما فيها من ظلام وجمود وتخلف وجهل وكسل، نموذج فريد سيعرف أصالته وقيمته العظيمة كل من يقرأ كتابه بلا شك.
***
ولدت مريم بإعاقة سمعية (صمم)، ولأن عالمنا متخلف ومريض لا يفسر القرآن إلا بطريقة عدوانية ولا إنسانية غالبا، ترسخت في مجتمعاتنا فكرة أن الأصم يعني أنه متخلف عقليا ولا فائدة منه، هكذا يفهمون قول الله عز وجل: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (البقرة 171)، ولا تحدثهم عن آلاف وملايين النماذج المضيئة التي ملأت الأرض فكرا وضياء وحضارة من العميان والصم والبكم، وأن المقصود هم «الكفار» الذين لا يريدون أن يسمعوا ويفهموا.. فهم يريدون ذاك المعنى لا غيره، لأنهم يعشقون الاقصاء!
***
روى لي د.فؤاد كيف أنه رفض فكرة الاستسلام، وقرر منذ البداية أن يخرج ابنته مريم من عالم الصمت إلى عالم الكلام، وأن يدمجها بالمجتمع ولا يحرمها حقها بأن تكون إنسانة غير معزولة. وبالفعل، بالإصرار والحب والتضحيات تحقق الحلم، ونطقت مريم وكبرت وتفوقت وأتقنت لغتين بل وأصبحت المتحدثة باسم زميلاتها الطالبات منذ الابتدائية إلى الجامعة.. وتزوجت مريم وأنجبت «ياسمين»، وهي تعيش حياة طبيعية بفضل الله ما كان لها أن تحياها لو استسلم الأب فؤاد وزوجته العظيمة للمفاهيم الاجتماعية السائدة ولكل ذلك الموروث البشع.
***
تجربة د.فؤاد وأسرته الكريمة لم تكن سهلة بالتأكيد، ولا أريد أن أذكر كل شيء لأترك للقارئ فرصة قراءة كتابه الرائع، والذي لا يمثل قيمة أدبية وعلمية رائعة فحسب، بل يمثل أكثر من هذا نموذجا فائق الروعة لما ينبغي أن نكون عليه في حياتنا وتجاه مجتمعاتنا وأحبابنا. فحكاية د. فؤاد شهاب وأسرته كما يسردها في الكتاب أمر غير مألوف في مجتمعنا «المحافظ» (ولا أعرف ما الذي لا نزال محافظين عليه؟!)، لكن خلف هذا المشروع العظيم الذي فتح من خلاله نافذة بيته وتحدث بكل صدق عن خصوصياته الأسرية، يقف مبدأ وهدف إنساني عظيم يتمثل في نقل تجربته الخاصة إلى المجتمع.. فقط ليتمكن من إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأطفال المعاقين وأسرهم حتى لا يقعوا فريسة الأوهام والأخطاء الشائعة التي تنتشر حتى في أغلب مؤسساتنا التي يفترض أنها معنية بمساعدة المعاقين. انه كنز حقيقي لكل أسرة تريد أن تعرف معنى التضحية والإخلاص، ولكل أسرة لديها طفل معاق بشكل خاص ليعرفوا أن الإصرار والحب يصنعان المعجزات.
***
بقي أن أذكر أن للأمير سلطان بن عبدالعزيز- رحمه الله، ولرجل الأعمال المصري محمد الفايد، أيادي بيضاء ساهمت في حل مشكلة مريم وكثيرين غيرها في البحرين بجهود د. فؤاد شهاب المشكورة، فجزاهم الله خير الجزاء.
[email protected]