في كتابه القيم «تشريح التدميرية البشرية» الصادر عام 1973، يميز الفيلسوف وعالم النفس الألماني العظيم إريك فروم بين نوعين من العنف: الأول هو العنف الدفاعي غير الخبيث، ويشترك فيه الانسان مع بقية الحيوانات، وفيه يلجأ الكائن إلى العنف بهدف الدفاع عن النفس والمصالح الحيوية، ويرى أنه عنف مبرمج وفقا للنشوء والارتقاء بمفاهيم التطور الدارويني.
الثاني هو العنف العدواني الخبيث، وفيه يكون العنف غير مبرر وغير ضروري، وهو ما لا نجده في أي كائن آخر غير الإنسان.
يقول فروم «.. ما هو فريد في الإنسان هو أنه يمكن أن تدفعه الدوافع إلى القتل والتعذيب وأن يشعر بالشهوة لدى فعله ذلك، وهو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يكون قاتل نوعه ومدمره من دون أي مغنم معقول أو مبرر سواء كان بيولوجيا أو اقتصاديا!».
****
فروم يتناول في كتابه المذكور النزعة التدميرية لدى البشر، يتقصى مختلف أنواع العنف والعدوان في سلوك الانسان عبر التاريخ، وهو كتاب علمي ضخم في جزأين يمثلان أحد أهم المراجع العلمية في هذا المجال.
في عشرينيات القرن الماضي قدم سيجموند فرويد أول نظرية تحاول تفسير العنف والعدوان البشري، أكد فيها أن «الرغبة في الموت والتدمير جزء أصيل من الإنسان يتعذر استئصاله، وهي رغبة غريزية مساوية لغريزة الحياة».
****
يصعب جدا فهم مسألة صرف مليارات الدولارات وقتل ملايين البشر في حروب عبثية يدعي من يقف خلفها أنها بهدف تحقيق «مصالح» ما، فأي مصالح يمكن أن تبرر هذا العنف المجنون؟! بمفاهيم الاقتصاد، الحروب استثمار خاسر، إذ يتجاوز سعر «صاروخ توماهوك» مثلا 1.5 مليون دولار، بينما يتجاوز سعر صاروخ ترايدنت 65 مليون دولار للقطعة الواحدة.. فأي هدف يمكن أن يعوض هذه التريليونات التي تهدر في قتل الناس وتحطيم المدن وتدمير الحياة؟! لا يمكن فهم هذا العبث بمنطق المصالح المزعوم بالتأكيد، وإنما بمنطق العنف التدميري الخبيث الذي يتحدث عنه إريك فروم، والذي نحت له مصطلحا سيرتبط باسمه بعد ذلك هو «نيكروفيليا»، أي «الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، متفسخ، متعفن، وسقيم.
إنها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي. هي التدمير من أجل التدمير، والاهتمام الحصري بما هو ميكانيكي خالص، والشغف بتفكيك كل البنى الحية».
(يقابل مصطلح نيكروفيليا = حب التدمير، مصطلح «بيوفيليا» والذي يعني حب الحياة والبناء، وهنا يخالف فروم استاذه فرويد).
إريك فروم في كتابه «تشريح التدميرية البشرية» يقدم نموذجا لحالة نيكروفيلية واضحة وهو أدولف هتلر، فماذا عن الرئيس هاري ترومان الذي أمر باطلاق القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي؟ ماذا عن هولاكو خان المغولي الذي أباد أمما ودمر حضارات؟ ماذا عن ستالين، عن ماو تسي تونغ وعن الصهاينة وعن ملايين البشر ممن يقتلون ويتلذذون بالقتل ويتفننون بابتكار طرق قتل وحشية في عالمنا المنحط كل يوم؟!
****
كم هي قصيرة الرحلة من الرحم إلى القبر.. كم هي مليئة بالعذابات والأحزان والشر!
[email protected]