في عام 1960 بدأ عالم النفس الأميركي د.ستانلي ميلغرام أبحاثه القيمة حول «الانصياع للسلطة» بهدف فهم أسباب السلوك العدواني للجنود النازيين والذي برره أكثرهم «بأنهم مجرد جنود يطيعون الأوامر»، فقام ميلغرام بتصميم تجربة ستصبح بعد ذلك علامة فارقة في تاريخ علم النفس.
التجربة باختصار تقوم على وضع مشارك متطوع أمام جهاز صعق كهربائي موصول بيد شخص آخر (ممثل) في غرفة منفصلة، ثم يطلب المشرف (ممثل أيضا) من المتطوع أن يوجه أسئلة محددة للشخص، وإذا أخطأ يقوم بصعقه بشحنة كهرباء مؤلمة، ثم تتضاعف الشحنة الكهربائية أكثر في كل مرة يخطئ الشخص بالإجابة.. في البداية، يتم صعق المتطوع بشحنة كهربائية مقدارها 45 فولت فقط ليتمكن من تقدير درجة الألم، وهي بالمناسبة الصعقة الوحيدة الحقيقية في التجربة.
الغريب والمؤلم أن أكثر من 75% من المشاركين في هذه التجربة وصلوا إلى الصعقة القصوى وهي 450 فولت، كانوا متضايقين وخائفين من سماع أصوات الألم وصرخات التعذيب من الأشخاص الموصولين بجهاز الصعق الكهربائي، وبعضهم كان يصرخ بأنه مريض بالقلب ويعاني ذبحة وعلى وشك أن يموت.. ومع هذا، كان 75% من المشاركين ينظرون للمشرف ويستأذنون في التوقف لكنهم يواصلون التعذيب بعد أن يطلب منهم المشرف الاستمرار بالتجربة!
***
يقول ميلغرام: نتائج هذه التجربة مقلقة حقا، وهي ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها في إبعاد الانسان عن القسوة والعنف والمعاملة غير الإنسانية، عندما تتلقى الأوامر من سلطة فاسدة، فإن نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون به دون أخذ طبيعة الأمر ونتائجه المؤلمة بعين الاعتبار، وبلا قيود يفرضها الضمير.. تأملوا في هذا، إذا تمكن «مشرف» مجهول من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لتعذيب رجل في الخمسين من عمره يصرخ ويتألم، ويخضعونه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجه ومرضه، فلا يسعنا إذن إلا أن نتساءل ما الذي تستطيع عمله الحكومات بما تملكه من سلطات أوسع وأجهزة وأدوات تشرعن الأوامر والعنف!
***
من النتائج المؤلمة أيضا التي كشفتها تجارب ميلغرام ما يتعلق بارتباط الطاعة بعقلية القطيع، إذ كشفت أبحاث وتجارب أخرى عن زيادة درجة الطاعة والخضوع للسلطة بين المجموعات أكثر مما هي عليه بين الأفراد، ومرد ذلك أن الفرد ضمن الجماعة يتصرف بمشاعر أقل بالمسؤولية ويجد أفعاله مبررة طالما أن «الجميع يفعل هذا..».
***
لاحظوا.. حديث ميلغرام ودراساته كانت موجهة أساسا لفهم العنف المفرط من قبل الجنود النازيين ضد اليهود تحديدا، فما الذي يمكن أن يقوله علم النفس وعلم الاجرام عن العنف والقسوة والوحشية التي تحدث في الشرق الأوسط اليوم على يد أبناء البلد الواحد والدين الواحد؟! أعدت قراءة الكثير من أدبيات الحرب العالمية الثانية، وشاهدت معظم الأفلام الوثائقية حول تلك الفترة، وزرت تقريبا كل معسكرات الاعتقال النازية من داخاو وميونخ وبرلين في ألمانيا، إلى آوشفيتز وبيركناو في پولندا، إلى تيريزين في التشيك وغيرها، وأستطيع أن أقول بكل ثقة أن العنف والوحشية التي تمارس بيننا اليوم، أكبر بأضعاف المرات من وحشية النازيين.
كيف نفهم وحشية رجل يوجه عدة طعنات لجثة قتيل.. يفعل هذا وهو يبتسم للكاميرا؟ بأي تفسير يمكن أن نتحدث عن رجل يقطع رأس إنسان ويركلها برجله وهو يضحك؟! هذه ليست سادية، لأن السادية مرض يصيب عدد محدود من الأفراد، أما هذا العنف الجماعي الذي «يتحجج» بالدين فهو يتجاوز بمراحل أبشع صور السادية.
[email protected]