توفي في الأسبوع الماضي الفيلسوف وعالم الاجتماع الپولندي الكبير زيجمونت بومان، وهو من مواليد نوفمبر 1925، تم طرده من پولندا عام 1971 بتهمة «معاداته للسامية» (رغم انه يهودي!) من قبل الحكومة الشيوعية، والتهمة ملفقة كما هو واضح وذلك بسبب تحوله من تأييد الشيوعية وانتقاداته العلمية للصهيونية، بل انه اضطر لمخاصمة والده وقطع علاقته به بعد قيام والده بالتوجه الى سفارة الكيان الصهيوني المحتل في پولندا وتقديمه طلب هجرة إلى إسرائيل.
باومان درس في البداية علم الاجتماع في أكاديمية وارسو للعلوم الاجتماعية، لكنه لم يكمل وتحول لدراسة الفلسفة في جامعة وارسو بعد قيام حكومة پولندا بإلغاء تدريس علم الاجتماع تنفيذا لأوامر موسكو التي اعتبرته «حقلا من حقول المعرفة البورجوازية» - حصل هذا فعلا!
****
تركزت اهتمامات باومان وأبحاثه حول نقد العولمة، العلاقة بين الحداثة والهولوكوست، المذهبية المادية (الاستهلاكية)، ما بعد الحداثة، ونقد الصهيونية.
نشر مقالا مهما في مجلة «بوليتيكا» الپولندية هاجم فيه الكيان الصهيوني المحتل، واتهم إسرائيل بأنها لا تريد السلام اطلاقا، وأنها استخدمت موضوع المحرقة النازية (هولوكوست) كذريعة لتبرير أفعالها المتوحشة ضد الفلسطينيين.
كما شبه جدار الفصل العنصري الذي وضعته إسرائيل لفصل الضفة الغربية بالجدران النازية التي وضعها هتلر في وارسو لعزل آلاف اليهود في معزل (غيتو) قبل قتلهم بوحشية.
****
يصنف زيجمونت بومان بأنه أقرب للمذهب الماركسي، وهو لا ينكر اعجابه بالماركسية وتأثره بالفيلسوف الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي، ربما يفسر هذا النزعة الانسانية والأخلاقية عنده.
قبل أشهر استمعت لمحاضرة ألقاها هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع العظيم وهو ينتقد التصرفات الوقحة واللانسانية ضد المهاجرين واللاجئين في أوروبا، سمعته يقول.. لطالما كان الأوروبيون مقتنعين بأن ثقافتهم هي الأعلى والأكثر تطورا، ولذلك يتوقعون من بقية البشر أن (يرتقوا) بأنفسهم إلى مستوى الثقافة الأوروبية، ولذلك نرى السكان المحليين في مختلف المدن الأوروبية يتصرفون مع المهاجرين واللاجئين بعقلية متعالية ويطلبون منهم أن يتخلوا عن هوياتهم الأصلية وثقافاتهم التي عاشوا وتربوا عليها، وأن يتقمصوا ثقافة الانسان الأوروبي.. هكذا بكل صلافة ! يصف بومان ذلك بأنه «النسخة الحديثة من آكلي لحوم البشر» (هو يشير إلى أن أجداد الأوروبيين كانوا فعلا من آكلي لحوم البشر، لذلك يعتبر ممارسات أحفادهم النسخة الحديثة من هذه الوحشية).
في نقده الحاد للفوقية الغربية اعتبر زيجمونت بومان أن التحدي الأكبر الذي يواجه جميع القارات هو تعلم كيف نتعايش مع بعضنا بسلام كأفراد وجماعات مختلفة لكل منها ثقافتها.
****
رحل زيجمونت بومان الذي ظل إلى آخر يوم في حياته ناقدا للتعصب والكراهية والتعدي على حقوق الشعوب المستضعفة، رحل وحيدا وغريبا عن وطنه الأم، وغريبا عنا نحن أيضا.. حيث لم يذكره أحد ولم تنعه أي جهة في عالمنا العربي البائس، رغم مواقفه المشرفة تجاهنا!
[email protected]