وضع عالم الاجتماع الپولندي الكبير زيجمونت بومان مصطلحين لردات الفعل المختلفة التي يثيرها وجود «الغرباء» في معرض تحليله لمشكلة الشعبوية والعنصرية في أوروبا والتعامل السيئ مع المهاجرين، المصطلح الأول هو Mixophilia ويعني «حب التنوع»، ويرى أن هذا الميل فطري في الإنسان، فالجميع يحبون التنوع وتعدد الاختيارات، وهذا ما يكون عليه الإنسان في الوضع الطبيعي قبل أن تشوهه خطابات الكراهية والعنصرية.
المصطلح الثاني هو Mixophobia ويعني «الخوف من التنوع» بمعنى الخوف من الآخرين والغرباء وما قد يحملونه من قيم ومفاهيم وطريقة تعامل مختلفة.. الشخص المصاب بالخوف من التنوع يشعر بالاضطراب تجاه الغرباء، فبالنسبة له هو لا يعرف بماذا يفكرون وكيف سيتصرفون في المواقف المتعددة في الحياة.. الخ، لكنه بدلا من الاختلاط بالناس ومحاولة الاقتراب منهم والتعرف على أسلوب حياتهم المختلف عنه وتفهمه وتقبله والتعايش معه والاستفادة منه (وهو ما يفترض أن يحدث بين البشر)، يفضل تجنبهم والانعزال عنهم، وفي حالات متطرفة يعبر عن كراهيتهم ورغبته في اقصائهم بمختلف أشكال التعبير.
> > >
يقول بومان بأن الشعبويين والعنصريين المصابين بـ «الميكسوفوبيا» (الخوف من التنوع) يروجون أن سبب المشاكل الاقتصادية هو وجود بعض المهاجرين في البلد، لكن هذا غير صحيح، ويؤكد أن السبب الحقيقي للانهيارات الاقتصادية عبر التاريخ هو النظام الرأسمالي الجشع، فالبطالة على سبيل المثال سببها أن الرأسماليين الجشعين يتجهون لدول فقيرة حيث العمالة أرخص ولا توجد نقابات عمال وبالتالي لا توجد اضرابات ولا مطالبات بحقوق وامتيازات.. فالرأسمالي الجشع يهمه أولا وأخيرا زيادة الربح، هذا هو سبب البطالة الحقيقي وليس وجود المهاجرين.
بل انه يؤكد أن كثيرا من دول أوروبا ستنهار تماما لو تم التخلي عن المهاجرين فيها مثل ألمانيا وبريطانيا، كونها تعتمد اعتمادا كبيرا على العمالة الأجنبية التي تمثل عصب اقتصادها.
> > >
يرى بومان أننا مطالبون ببذل جهود أكبر لمواجهة الشعبوية والعنصرية ونزعات الخوف من التنوع (ميكسوفوبيا)، ومحاولة ايجاد ما يسمى Modus Vivendi وهي عبارة لاتينية تعني الاتفاق المؤقت أو «أرضية مشتركة للمختلفين»، وهي عبارة تستخدم كثيرا في السياسة للتعبير عن تسوية الخلافات المعقدة والتناقضات غير القابلة للحل بهدف الوصول لأرضية مشتركة تقوم على تقبل وجود تلك الاختلافات ومواصلة العيش دون التأثر بها والسماح لها بتدمير حياتنا كلها. والحق أن المسلمين اليوم بحاجة لثقافة التسوية المؤقتة أو الأرضية المشتركة بين المختلفين أكثر مما تحتاجه أوروبا مع المهاجرين.
لدينا مذاهب فقهية مختلفة وطوائف دينية متعددة، بعضها يكفر بعضا - والتكفير يتبعه استباحة دماء بالضرورة! - ولذلك نحن بحاجة إلى اتفاق عام بين المسلمين ينص على التوقف عند هذا الحد، وترك مسألة الحكم على معتقدات الآخرين لله عز وجل.
اتفاق يؤكد على حرية الاعتقاد بشرط عدم الإساءة للآخرين، وهذا موجود في القرآن الكريم ولا نحتاج لاستيراده أو تصنيعه: (لا إكراه في الدين..) ـ البقرة: 256، (لكم دينكم ولي دين) ـ الكافرون: 6، (.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ـ الكهف: 29، وغيرها من الآيات الصريحة الواضحة، وفي النهاية هناك تأكيد إلهي على أن (كل نفس بما كسبت رهينة) ـ المدثر: 38.
اتفاق الأرضية المشتركة بين المختلفين لا يعقده الناس بالتأكيد، وإنما يعقده «رجال الدين» ممن يتبعهم الناس ويأخذون بكلامهم، ونحن لدينا منظمة اسمها منظمة العالم الإسلامي التي تضم كل الدول الإسلامية، وبالتالي فالمهمة سهلة وعمليا توجد امكانية واقعية لتحقيق هذا الاتفاق.
[email protected]