يتحدث المختصون عن «أزمة علم الاجتماع»، كونه من أقل العلوم الإنسانية والاجتماعية إنتاجا، مرد ذلك لطبيعة الظاهرة التي يدرسها هذا العلم البائس، وأعني المجتمع، فهي ظاهرة شديدة التعقيد والتركيب وسريعة التغير. إلا أن كتابات عالم الاجتماع الپولندي الكبير زيجمونت باومان أخرجت هذا العلم من مأزقه كما يقول المختصون. باومان اهتم أساسا بنقد الحداثة وما بعدها، وسك مصطلح «الحداثة السائلة» لوصف حقيقة هذا المفهوم المخادع، إذ لاحظ بعمق منذ ستينيات القرن الماضي أن مفهوم الحداثة Modernity يحمل الكثير من الغموض والتدليس، إذ توحي الكلمة بأن الأمر يتعلق بالتحديث والتطور والتقدم، مقابل القديم والمتخلف، وكأن في الحديث أو الجديد الخير كله للبشرية، بعد طرح الشر والدمار الموجود في القديم. غير أن حقيقة الحداثة كانت وما زالت خلاف هذا تماما، فالبشرية تسير من سيء إلى أسوأ بسبب قيم الحداثة تحديدا.
> > >
باختصار، تقوم الحداثة على أسس أهمها التخلي عن كل مصدر آخر غير العقل في تحديد ما هو الخير وما هو الشر، ما هو الصواب وما هو الخطأ، ما هو الأصلح وما هو الأسوأ للناس. وهي الدعوة التي انطلقت مع فلاسفة عصر التنوير وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني الكبير امانويل كانط. ثم اختار العقل الحداثي الرأسمالية كنظام اقتصادي، والديموقراطية كنظام سياسي، وراح الحداثيون يبشرون الناس بالحريات والرخاء في العيش. إلا أن تاريخ البشر منذ ذلك الحين لم يعرف سوى الدمار والحروب والانقسام الفاحش بين فئة قليلة تملك كل شيء، مقابل فئة كبيرة لا تملك أي شيء. وهنا تبرز جهود زيجمونت باومان في نقده للحداثة، وعبقريته حين استخدم مصطلح «السائلة» Liquid لتأكيد حقيقتها، فالسائل لا شكل له ولا ملامح، ومن طبيعته التحرك الدائم وعدم الثبات.
> > >
أصدر زيجمونت باومان سلسلة كتب ناقدة للحداثة وما بعدها تحمل مصطلح السيولة، أهمها كتاب «الحداثة السائلة»، وكتاب «الحب السائل»، وكتاب «الحياة السائلة»، وكتاب «الخوف السائل»، وكتاب «الأزمنة السائلة»، وكتاب «الشر السائل» وغيرها من الكتب والمقالات التي تحمل في مضمونها نفس الجوهر، وهو وصف الحداثة وما بعدها بأنها سائلة ومشوهة أهدرت كرامة الإنسان ولم تقدم له أي شيء من الوعود الكثيرة التي نادى بها الحداثيون. فالإنسان كان أول ضحايا الحداثة، حيث فقد قيمته وأثيرت حول «ماهيته» هو التساؤلات والشكوك بعد أن نادى الحداثيون بإعلاء قيمة العقل ورفض كل مرجعية أخرى. بل إن العقل ذاته ناله ما نال الإنسان وتعرضت «ماهية العقل» للسؤال والتشكيك، لذلك ضاعت كل القيم وتداخلت كل المفاهيم ولم يعد لأي شيء أي قيمة أو معنى.. وكأننا بإزاء حوض ماء ذابت فيه عدة عناصر، ومن هنا تأتي عبقرية باومان في توظيفه لمصطلح السيولة.
> > >
الحداثة وعدت البشرية منذ القرن السابع عشر بالنعيم إذا قبل بالتخلي عن مرجعياته الدينية والتزم فقط بمرجعية العقل. إلا أن الحياة كلها أصبحت بائسة وغير جديرة بالعيش عند ملايين البشر بعد ذلك، وها هو الإنسان يعاني اليوم الفقر والجوع والوحدة والضياع والخوف من الدمار الشامل والموت سدى بلا مبرر ولا خطيئة. الحداثة فعليا حولت البشر لأدوات، ومزقت كل الأسس التي عاشوا عليها لقرون طويلة، مزقت مفهوم الأسرة النووية التي كانت تجمع الجد والأب والأبناء والأحفاد، فتحولت إلى كيان مشوه يجمع رجلا برجل وامرأة بامرأة، بل يجمع امرأة تتزوج من كلب أو قطة.. كل هذا أخذ مفهوم الأسرة بتشريع قانوني نافذ في الغرب! وللحديث بقية.
[email protected]