أبرز ملامح العصور السابقة على الحداثة أنها كانت تملك نصيبا من الصلابة في مفاهيمها، والصلابة هنا تعني شيئا من الثبات والاستقرار، وأبرز ملامح الحداثة وما بعدها أنها فقدت تلك الصلابة لصالح سيولة مشوهة لم يعد فيها لأي شيء أي قيمة ولا معنى.
فقدت مؤسسات المجتمع بنيتها، فالأسرة ضاع مفهومها مع دخول نماذج مشوهة من حالات الزواج المثلية أو مع الحيوانات والتي اعترفت بها الدول الغربية.
كما فقد المجتمع بنيته لصالح الفردية التي تشوهت بدورها هي الأخرى، فاستحالت لعزلة قاتلة ازدهرت معها عيادات الطب النفسي التي تبيع الوهم لإنسان هذا العصر البائس.
****
يقول باومان: إن من أبرز عوامل صلابة العصور السابقة على الحداثة أنها كانت تتضمن مفاهيم «النضج» والتدرج والتقدم.. فكانت المفاهيم تتشكل عبر زمانية طويلة وتترسخ وتثبت، ولكن المجتمعات «الحديثة» فقدت هذه الميزة مع الحداثة، أي بعد تخليها عن مرجعياتها القيمية، ويلقي باللوم الأكبر على الرأسمالية الجشعة التي ساهمت في تشيئ الإنسان وتمجيد حياة السرعة والاستهلاك.
فما يعيشه إنسان هذا الزمن السائل المشوه من دمار وتشرد ومجاعات ما هو إلا نتيجة طبيعية للرأسمالية الجشعة.
كما أصبح الخوف والهلع حالة ملازمة لإنسان عصر الحداثة، ويرى باومان أن الأنظمة الديموقراطية جميعها استثمرت في الخوف للفوز بالانتخابات والبقاء أطول مدة ممكنة في السلطة والاستفادة من تجارة السلاح!
أكثر من هذا، في كتابه «الحداثة والهولوكوست» يعتبر زيجمونت باومان أن ما تعرض له اليهود من قتل وتنكيل على يد النازيين مجرد نتاج طبيعي للحداثة، وينفي أن تكون الهولوكوست حكرا على اليهود، فطبيعة الحداثة ذاتها تنتج دائما مذابح وإبادات جماعية، وهو ما حصل فعلا لكثير من الشعوب (مذابح الجزائريين على يد الفرنسيين، مذابح الأرمن على يد الأتراك، مذابح الفلسطينيين على يد الصهاينة، مذابح قبيلة التوتسي على يد قبائل الهوتو في رواندا، مذابح المسلمين على يد الصرب في البوسنة والهرسك، مذابح المسلمين على يد البوذيين في بورما، مذابح التطهير العرقي في بوروندي وبنغلاديش... إلخ)، فالمذابح والإبادات ليست حالة فريدة ضد اليهود كما يقول باومان، ولذلك شن الصهاينة عليه هجوما لاذعا، ورموه بالتهمة الجاهزة «عدو السامية» رغم أنه يهودي!
****
ومن أبرز ملامح هذا العصر السائل أيضا ما يسميه باومان «حركة الإنسان الدائبة»، فإنسان عصر الحداثة شبه مشرد، يتنقل دائما إما بسبب ارتفاع الإيجارات أو بسبب متطلبات البحث عن عمل.
تقول عالمة الاجتماع الهولندية المعاصرة ساسكيا ساسن على خطى باومان بأن إنسان المدن الحديثة أو المدن العالمية Global City يعيش حالة «بداوة جديدة» New Nomadism حيث التنقل والترحال هي السمة الغالبة على أغلب سكان هذه المدن البائسة التي أصبح - حسب باومان - التشرد جزء من كينونتها، فأينما ذهبت ستجد أحدهم في زاوية أو تحت جسر أو بجانب صندوق القمامة.
****
في كتابه «الأزمنة السائلة» كتب زيجمونت باومان «الكوكب وصل الآن إلى حالة الامتلاء، وهذا يعني أن العمليات المعهودة مثل بناء النظام والتقدم الاقتصادي باتت تنتج «نفايات بشرية» في كل مكان، وتتصاعد معدلاتها كل يوم، ولكن سلات القمامة «الطبيعية» المناسبة لتخزينها أو إعادة تدويرها ليست موجودة في هذا الزمن، وهكذا فإن الأزمنة التي استشرفتها روزا لوكسمبورغ منذ قرن من الزمان قد وصلت إلى منتهاها».
باختصار، المدن الحضرية أصبحت اليوم ترتبط بالخطر والتنقل أكثر من ارتباطها بالأمان والاستقرار، فالحداثة التي بشرتنا بالرخاء، عاجزة تماما وأدخلتنا في حالة هلع وخوف دائم!
[email protected]