أثيرت في تاريخ الفكر الإنساني مسألة أسبقية الفرد والمجتمع، فقال أصحاب الاتجاه الاجتماعي بصورة عامة إن المجتمع هو الأساس، فالفرد لا يستطيع أن يتواجد أو يستمر في الحياة إلا في مجتمع، وبالتالي فالأولوية يجب أن تكون للمجتمع بوصفه الإطار العام الذي يحمي الأفراد ويوفر لهم بيئة الحياة. وفي المقابل نادى أصحاب الاتجاه الفردي بأسبقية الفرد على المجتمع قائلين إن المجتمع عبارة عن تصور رمزي وليس كيانا حقيقيا، فالوجود الحقيقي هو وجود الفرد، وما يسمى مجازا بالمجتمع ما هو إلا «مجموعة» أفراد وبالتالي فالأسبقية يجب أن تكون للفرد وليس للمجتمع.
من أصحاب الاتجاه الاجتماعي خرجت التجربة الاشتراكية بصورتها العلمية على يد كارل ماركس وبصورتها التطبيقية المشوهة على يد لينين ثم الأكثر تشوها بعد ذلك مع ستالين، ومن أصحاب الاتجاه الفردي خرجت «الليبرالية» التي تطورت فكرا في إنجلترا وتطبيقا في الولايات المتحدة الأميركية ثم عادت لتكتسح العالم الغربي بعد ذلك بدرجات متفاوتة، إلى أن وصلتنا - كالعادة - في عالمنا العربي البائس على هيئة «مسخ» بلا ملامح ولا مضمون. ولا عجب في ذلك فالليبرالية في عالمنا العربي مثلها مثل الديموقراطية والرأسمالية وحتى الاشتراكية، فكلها أسماء «لا تعرف البارد من الحامي» ولا تحمل من مسمياتها سوى الاسم، إلا إذا اعتبرنا تجربة سورية وليبيا على أنها اشتراكية حقيقية وصدقنا أن في الكويت ولبنان ديموقراطية وأن النظام الاقتصادي في مصر نظام رأسمالي
المشكلة ليست في هذه النظم الاجتماعية بالتأكيد، وإلا لما نمت وترعرعت واستطاعت أن تنتشر في بلاد الله الواسعة، فالرأسمالية ظهرت أول ما ظهرت في إنجلترا، حالها حال الليبرالية، ومع ذلك أصبحت هي النظم الرسمية لكثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
المشكلة في عقل الإنسان العربي، في جينات المخ والمخيخ تحديدا فهو عقل غير قادر على استيعاب «الفكر الإنساني»، وليس صحيحا أن الإسلام هو السبب، فها هي اندونيسيا وماليزيا وإيران استطاعت أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه جميع الدول العربية مع أنها تطبق الإسلام أكثر مما هو مطبق في عالمنا المريض. المشكلة تكمن في أن من يتبنى هذه الأفكار الكبيرة يمتلك عقلا صغيرا لا يستطيع أن يستوعبها، ولذلك من الطبيعي أن تتحول الاشتراكية عندنا إلى «تعميم الفقر» وتختزل الليبرالية ـ هذه الايديولوجيا الضخمة ـ في «صعلوك» يصنع لنفسه هالة إعلامية من خلال سب معتقدات الآخرين. المشكلة أن من يدعي الليبرالية لدينا لا يقدم للناس «فكرا» ولا تجربة عملية لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الفردي القويم، وإنما يكتفي بالسخرية من حجاب المرأة ومن لحية «المطاوعة».
تصور الناس في عالمنا العربي عن الليبرالية تصور سلبي، فهم يرونها «زندقة» وكفر، وهم معذورون في ذلك، فهذا ما يسمعونه ويشاهدونه من مدعي الليبرالية، وإلا كيف سيستوعبون مفهوم «الفردية» في الوقت الذي يقوم فيه «مثقف ليبرالي» بوصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالفشل ـ مع أنه كان قادرا على أن يقول بأنه «لم يتمكن» بدلا من استخدام كلمة «فشل» ـ باستضافة «مفكر عربي» (أسماء ببلاش) يقول إن القرآن الكريم من تأليف الرسول؟ هكذا تقدمون الليبرالية للناس ـ أيها الليبراليون الأعزاء ـ ثم تولولون وتتباكون على «حرية الرأي» و«حرية الفكر».
[email protected]