نشب هذا الخلاف في مجلس الأمة بتاريخ الثامن من هذا الشهر بين فريقين: فريق يرى إعطاء الأولوية في جدول الأعمال لقضية الحقوق الإنسانية للبدون وفريق يرى بأولوية مسألة توظيف المواطنين. ولكنه سرعان ما نشب الخلاف الأكثر حدة ليس حول أولوية جدول الأعمال بل حول القضية نفسها: أي حق أهم حق المواطن أم حق البدون/ الإنسان؟ هذا خلاف «كلاسيكي» ولكن يبقى سؤالنا دائما حول جدارة أي منهما في أن يقنعنا.
في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم أصبحت الجنسية هي المفتاح الرئيسي لكل الحقوق التي من الممكن للإنسان أن يتمتع بها. بدون الجنسية يكون الإنسان مثل سفينة تبحر في المياه الدولية بلا علم ترفعه فتصبح عرضة لأي هجوم من قبل أي دولة دون أدنى مساءلة. ولذلك يبدو الشخص البدون، على الرغم من صراعه مع الدولة التي رفضت أن تعطيه حقه، متذللا ومتوددا لها، فمن دونها لا يصبح إنسانا يتمتع بحقوق، لا يصبح «مواطنا» (هذا بالنظر لسيادية الدولة التي تمنحه الجنسية). ولكن الدولة من جهة أخرى عليها إلزام أدبي وأخلاقي بأن تحترم المواثيق الإنسانية التي صادقت عليها، أقول أدبي لأن الميثاق العالمي نفسه يوصي باحترام خصوصيات الدول وأولوية القوانين المحلية عليه. وعلى الرغم من «أدبية» أو «أخلاقية» هذا الإلزام نجد هذا الشخص البدون الذي كان متذللا للقوانين المحلية ـ نجده الآن مصارعا للقوانين المحلية باسم حقوق الإنسان. وهكذا تظل الدولة وقوانينها المحلية في مرتبة أكثر أهمية من القوانين الدولية لأنه ما من ضمان واقعي لهذه الحقوق «الإنسانية» إلا من خلال القوانين المحلية.
ولكنه قد يحدث أن تتعسف الدولة في استخدام قوتها لأي سبب من الأسباب تجاه بعض أفرادها، وليس ضد عديمي الجنسية فقط، بل ضد مواطنيها الذين يحملون جنسيتها، والتاريخ والواقع مليئان بمثل تلك الشواهد. في مثل تلك الحالات لا يمكن للفرد أن يطلب النجدة من الدولة وقوانينها وذلك لأنها هي الخصم الذي يتفنن في تعذيبه باسم القانون. في مثل هذه الحالات الشديدة القسوة لا يسع الفرد أن يطلب المساعدة من أحد سوى الله عسى أن يعجل بفرجه. ولكن يبدو أن هذه الحلول الدينية لمسألة سياسية ليست حلولا مستساغة من قبل البعض وأنا منهم. ولذا فنحن دائما ما نطالب بأن يكون هناك قانون إنساني يعلو على الدولة يلجم جماح ظلمها إذا ما وقعت في يد فئة متطرفة تنكر على الآخرين حقوقهم. ليس من ملجأ لنا يقينا عنف الدولة سوى قانون يسمو عليها يمسك بأدوات عقابية تنزل الرهبة في قلبها فتعدل من انحرافها.
لهؤلاء الذين قدموا حقوق المواطن على حقوق الإنسان أقول: إن إنكاركم لحقوق الإنسان وعدم الالتفات إليها يجعل منكم فريسة سهلة للدولة إذا ما تعرضتم لجورها. وفي ظل الأجواء السياسية العربية غير المستقرة هذه، لا وجود لشيء أسهل من قمع الدولة. أما في حال تعرضكم الفعلي لهذا الظلم فلن تقبل منكم صيحات النجدة والاستغاثة بحقوق الإنسان ولن تنفع معكم شفاعة الشافعين، وذلك لأنكم قد ظهرتم بمظهر عنصري شائن: تنكرون حقوق الإنسان على الآخرين وتريدونها لأنفسكم.
[email protected]