معروف أن لكل إنسان منا شأنه الخاص والذي قد يشتمل على علاقاته مع أفراد أسرته، أصدقائه، أبناء جلدته، أبناء دينه، الرقم الذي يحتويه حسابه البنكي. ومعروف أيضا أن لكل منا شأن عام، شأن يهتم بهذا الفعل الذي يمارسه الإنسان متجاوزا كل المصالح الخاصة. هذه الأفعال العامة هي ما يصح أن نطلق عليها أفعالا «سياسية» من حيث أنها لا ترتبط بشيء سوى بالشأن العام، شأن الوطن.
والمجتمعات العربية شأنها شأن مجتمعات أخرى عادة ما تغرق في الشأن الخاص فنرى من يدخل السياسة بإرادة الشأن الخاص كجمع المال والشهرة ومصلحة القبيلة أو الطائفة الدينية، ونتيجة هذا كله أن تشوه معنى السياسة اليوم، فندر من يتحدث عن الشأن العام. وهكذا فلطالما تم النظر للشعوب العربية على أنها شعوب متخلفة غارقة في تمزقها العرقي والديني، ليس لها من نور يهديها الى سبيل الشأن العام. وفي هذا القول الكثير من الحقيقة، ويكفينا النظر لإثبات ذلك نظرة سريعة للصراعات ذات المحتوى الديني والقبلي في الممارسات «السياسية» العربية سواء من قبل الحكومات أو الشعوب ممثلة في برلماناتها، هذا في حال وجود بعض الديموقراطيات والتي هي ديموقراطيات «لزوم الديكور». نعيش اليوم عصر الصراعات التي نسميها جدلا صراعات «سياسية» وهي ليست في أحسن الأحوال سوى ظهور لهذه الانقسامات الدينية والعرقية في شكل سياسي رسمي: لقد انتهت السياسة لدينا وصببنا الرمل على رأسها صبا وصلينا عليها صلاة الميت.
وفي هذه اللحظة يسأل الشاب العربي اليوم نفسه عن هذا التراث الذي حمله إليه الواقع: أهكذا ينبغي علي أن أعيش؟ هل يفترض بي أن أورث أبنائي هذا البيت الخرب الذي نسميه «مجتمعا»؟ هل من أمل في إحياء «السياسة» من جديد؟
لحظة هذا التساؤل هي لحظة ما بعدها لحظة، لحظة تجرد الفرد من شأنه الخاص باحثا عما هو أفضل للجميع، «المجتمع ككل» هذه الفكرة التي لم تظهر في عقول ساستنا بعد. من الممكن للشأن الخاص أن يهدم أو أن يتم التجرد منه، ولكن ليس بإمكاننا على الإطلاق أن نهدم الشأن العام، شأن الوطن، وذلك ببساطة لأنه هو السياق العام الذي يحتضن كل وجهات النظر ويعطيها معنى، كل وجهات النظر المختلفة والمتناقضة والتي لا يمكن حلها بالعنف بل بالحوار، تخيل أن يهدم هذا المكان الذي نحل فيه خلافاتنا بطريقة قانونية، تخيل أن يحرق هذا البيت الذي يعطينا هويتنا كي نعرف أنفسنا من نحن، لا يمكنك إذا ما احترق هذا البيت أن تهرب فجميع وثائقك فيه ولن يعرف الناس بعد ذلك من أنت. ولن يكون بإمكانك أن تزيد ناره بنزينا وذلك لأن أبناءك وأبناء أحبابك يقطنون فيه. ليس بإمكانك إلا أن تكون اطفائيا فتطفئه لشعورك بالأمانة التاريخية أمام من سلمك إياه من قبل وأبنائك الذين ستسلمهم إياه من بعد.
قليل منا من يمتلك «الشجاعة» للتفكير بهذه الأمانة بل وأن يخرجها من حيز العقل إلى الواقع. قليل منا من يستطيع التجرد من شأنه الخاص فيعبر نحو آمال الوطن ومستقبله، قليل منا من نزل إلى الشارع غير آبه بأي شيء، بل واستعد لخسارة كل شيء إلا الوطن. قليل هم أمثال «سالي توما مور»، أحد الشباب الذين قادوا ثورة مصر، والتي قالت للصحافي في مقابلة معها: «لا يمكن أن أصف لك شعوري بإمكان تحويل المسجد من دار للعبادة إلى مستشفى. لقد كان مسجدا ولكن بدون تفرقة بين مسلم ومسيحي».
[email protected]