مدرس كويتي للتربية البدنية في منتصف الثلاثينيات من عمره، حصل على تعليمه كله في أحضان مدارس الكويت الحكومية، تحمل كل قطرة من عرقه شغفه غير العادي بالشأن العام. وعلى الرغم من الأولويات الخاصة التي يفكر فيها ويحددها لنفسه كل شاب من أبناء جيله، تبقى هذه الأولويات الخاصة، على أهميتها، في مرتبة لاحقة لتعلقه بشأن حب هذه الأرض. وكم هي لحظات مريرة تمر على هذا المعلق قلبه بحب الكويت عندما يرى اليوم انجراف طلبته، انجراف الشباب الذي تتسارع هرموناته في شتى أعضاء جسده، نحو عصبيات مناطقية ومذهبية وعائلية وقبلية. لسان حاله يرثي له: وماذا بعد أن نذهب ونترك هذا البيت الكبير، الوطن، الذي حارب أجدادنا وقضوا من أجله، ومن أجل أن نعيش فيه نحن؟ ماذا نفعل في تلك الأمانة التي سلمنا إياها السلف وهم يرجون أن نسلمها كما هي، إن لم تكن أجمل، للخلف؟ هل هذا الجيل المنجرف نحو عصبيات ما أنزل الله بها من سلطان قادر على حمل الأمانة؟ هل هم على استعداد لخلع هذه العباءات العنصرية المذهبية حتى يصبحوا قادرين على التفكير، التفكير فقط، فيما يخص مصلحتهم ككل مترابط؟
إن المجال المعرفي والمقررات التي يدرسها هذا المعلم لا تسمح له بدخول قاعة الدرس كي «ينظر» ويلقي دروسا في حب الوطن والوحدة الوطنية، ليس ذلك بسبب عدم قدرته على فعل ذلك، بل نتيجة اعتقاده الراسخ بأن التعليم الحقيقي والمؤثر هو التعليم من خلال الممارسة وهو ما يطلق عليه علماء التربية الغربيون اليوم learning by doing. وكم كانت سعادتي وأنا أستمع لشرحه حول أسلوبه في فعل هذا.. إن قاعة الدرس من وجهة نظره غير كافية لإصلاح ما يفسده المجتمع، فما يتلقاه الطالب في ساعة الدرس الوحيدة يوميا، حول أهمية حب الوطن والتضحية من أجله، يقابلها رقم مهول من الساعات التي يقضيها في بيئة كالأسرة والديوانية والأصدقاء، وهي التي تحث بشدة على الكراهية الاجتماعية.
هذا هو مجتمعنا اليوم وليس من المفيد لنا على الإطلاق أن ننكره، وبالنظر لعدم جدوى التدريس حول هذه القضايا في ظل وجود مجتمع يؤكد وبقوة على المصالح الفئوية، اعتاد هذا المعلم الجليل أن يقسم طلبته إلى فريقين للعب كرة القدم بحيث يمثل كل فريق منهما المجتمع الكويتي بكل أطيافه من حضر وبدو وسنة وشيعة، بل لقد أخذ هذه المسؤولية خارج أسوار المدرسة، لإيمانه بدور المدرسة الفعلي خارج أوقات الدوام الرسمي، فاقتطع الوقت من أسرته ليذهب سويا مع طلبته لاحتساء الشاي أو القهوة في كافيه جمعية المنطقة. ما فعله هذا المدرس على أرض الواقع هو تذويب كل هذا الجليد الذي أصاب علاقاتنا الإنسانية فجعلنا نخاف من الآخر المختلف ونمتنع عن تكوين صداقات معه، تخرج هؤلاء الطلبة ودخلوا الجامعة ومازالوا يحتفظون بصداقاتهم.
يعاني مجتمعنا اليوم ـ في نظره ـ من خوف مرضي من الآخر يبدأ لدينا تدريجيا في الأسرة منذ الصغر ويكبر مع الزمن، يبدأ من تكسير وإتلاف لدور عبادة من قبل بعض الشباب المتهور مرورا بضرب وعنف في البرلمان من قبل «الناضجين». مشكلة مجتمعنا من وجهة نظر مدرس التربية البدنية هي أنه لم يترب جيدا!
قليل هم هؤلاء الذين يقومون بخدمة المجتمع في صمت لا ينتظرون مكافآت أو تكريما أو كادرا، قليل منا من يحمل عبء الوطن على أكتافه ويشعر بمسؤوليته الشديدة الخصوصية تجاهه. قليل منا من يفعل ما يصب في الصالح العام دون أن يأمره أحد بذلك. لكم مني تحية إجلال وتقدير أستاذ خالد العبدالجادر.
[email protected]