د.محمد الوهيب
تخيل معي عزيزي القارئ ان يتدين المجتمع ويتشح افراده بزي معلميهم وهم مفسرو الدين ورجاله. وفي ذلك القول كل المعقولية، فالفرد العادي تصعب عليه امور الدين وفي الغالب ما يتجه نحو إمامه او مقلده. ان لم يتجه الشخص العادي نحو هؤلاء «الراسخين في العلم» فإنه سيظل في حيرة من امره لا تنتهي إلا بعصا سحرية من هؤلاء وذلك من خلال فتوى شرعية.
اقول شرعية لان المجتمع المتدين لا يرى الشرع إلا من خلال هؤلاء فهم «المرجع» بألف لام التعريف لكل ما هو «شرعي» والحال ان التسليم بمرجعية هؤلاء يسحب البساط من تحت اي امور اخرى من الممكن ان تكون مصدرا او مرجعا للشريعة مثل رضا الناس او خبرتهم او مصلحتهم في مرحلة زمنية ما او حتى علمهم او علم متخصصيهم، بالطبع انا لا انكر واقعية الاحكام الشرعية والتي تأخذ الواقع ومقاصده في الحسبان، ولكني اقول ان حال فقهاء اليوم ينحى بهم في الغالب تجاه تقديم النص على قراءة الواقع، وهذا ما اصطلح الكثير على تسميته بالنصية او الظاهرية في قراءة النصوص اي قراءة ظاهر النص ورؤية الواقع من خلاله.
تخيل معي ان يتدين المجتمع ويصبح مجتمعا «شرعيا» تكون الاولوية فيه لكلمة هؤلاء الفقهاء «الشرعيين» ان لم يكن على المستوى الرسمي فعلى الاقل على المستوى الشعبي، لو كان ذلك، فماذا يصبح حال هؤلاء الذين يختلفون مع هذا الرأي الشرعي؟ ان كل الآراء المخالفة لهذا الرأي الشرعي سيتم رفضها وتهميشها في أفضل الاحوال، أما الاحتمال الاسوأ، وهو احتمال قائم، فهو ان يتم محو هذا الصوت المخالف بالكامل او على الاقل العمل المنظم تجاه محوه.
قد يعترض البعض بالقول ان هذه الصورة درامية بعض الشيء، اما انا فأرفض هذا النعت. فالاختلاف الديني ليس بموضوع عادي لدى العامة الذين تحركهم تفسيرات رجال الدين وهم من انكفأوا على كتبهم واعتصموا بصوامعهم لفترات طويلة من حياتهم جعلتهم يعتقدون برباط مقدس مع الله، بل جعلتهم يعتقدون بامتلاكهم للحقيقة التي خصهم بها الله عز وجل. ان كل المذاهب والطوائف الدينية تعتقد بحيازتها لهذه الحقيقة، وكلها تعتقد انها الفرقة الناجية وان الآخرين في الهاوية. قد لا تجد رجال الدين يصرحون بذلك ولكن هذه القناعة مختبئة دوما خلف كل اعتقاداتهم. بطريقة غريبة وسحرية تصل افكار هؤلاء العلماء «الشرعيين» وتتسرب لتصل للعامة الذين يهمهم الدين ولكن لا يعرفون سبيلا إليه إلا هؤلاء العلماء.
ينتشر ڤيروس امتلاك الحقيقة ليشمل العامة فتجدهم تارة مشكلين لجماعات شغلها الشاغل محو من يختلف معهم من افراد المجتمع، وتارة اخرى مجزئين للمجتمع لطوائف تمتلك الحقيقة وطوائف مفتقدة لها، مثل هذا المجتمع المهترئ هو عرضة للانكسار في اي لحظة تظهر فيه قضية اجتماعية مهمة فعند الحديث عن التعليم يخرج المتدينون من طوائف شتى ينادون بضرورة تدريس منطقهم. ليس سؤالهم عن جودة التعليم وكفاءته وتماشيه مع علوم العصر، بل عن مدى ظهور المذهب فيه. وعن الحديث عن علاقاتنا بدول الجوار لا يدور الحديث عن المصلحة الوطنية وعلاقات الحرب والسلام مع تلك الدول بل عن هذا الموضوع الدقيق الذي يقبع خلف كل مناقشاتهم وهو أثر الحلول المقترحة على الطائفة في بلدنا وفي البلد الآخر. إن تسرب الاعتقاد بامتلاك الحقيقة من حلقة العلماء إلى العامة يحولهم بالضرورة لجماعات متطرفة.
تلك هي طبيعة الايمان الديني بالحقيقة والتي تقضي بالضرورة ان الحقيقة واحدة لا تتجزأ وان المؤمن وجماعته هم من يمتلكها وان الجنة هي موعدهم.
ان عدم تجزؤ الحقيقة يعني عدم امتلاك من يختلف عنا لها. فالقضية إذن هي قضية حق وباطل «قوم على حق والآخرون على باطل». لنترك الايمان الديني وصعوبة الاختلاف فيه. كيف من الممكن ان نرى ظاهرة الاختلاف بحد ذاتها؟إن ظاهرة الاختلاف ظاهرة طبيعية فكلنا مختلف عن الآخر لدرجة انه من المستحيل ان ترى اثنين يتفقان في كل شيء والحال اننا في العمل، في القاعات الدراسية، في السياسة قد نختلف ولكننا من الممكن ان نتفق لان خلافاتنا في النهاية خلافات في وجهات النظر وهي بطبيعتها قابلة للتغيير نتيجة لاسباب عدة منها تغير الموقع الذي من خلاله يتم النظر للموضوع وتغير الظروف وقوة حجة الطرف الآخر... إلخ.
ولكن كل هذه الاسباب غير كافية لترد متدين واحد عن اعتقاده بامتلاكه للحقيقة فتجدك تحاوره لساعات طوال آتيا بالحجة تلو الحجة لاثبات خطئه وبالعديد من الامثلة التي قد لا يفسرها منطقه ولكن هيهات فلقد اعمته الحقيقة بنورها الوهاج. فظاهرة الاختلاف بين البشر إذن طبيعية من حيث الاصل والكل يعلم ذلك ونحن وبطريقة او بأخرى جهزنا انفسنا للتعامل معها بصورة يومية لانها في النهاية امر «عادي» فكلنا خطاءون، ولكن ما ان تطرق الموضوعات الدينية ابواب النقاش حتى يستبسل العارف والجاهل في الدفاع عن وجهة نظر ألبست ثوب الحقيقة فيستحيل المختلف معه إلى كافر او منافق او ضعيف العقيدة...الخ. أليس الامر كذلك؟
فكر فيها!
[email protected]