د.محمد الوهيب
الحوار هو تبادل للأفكار من خلال اللغة وذلك بين طرفين أو أكثر، ولا يدخل الحوار ـ إذا كان هذا الحوار حقيقيا وليس مجرد أصوات تصدرها كائنات تشبه الآدمية ـ إلا شخص مفكر أو على الأقل لديه استعداد للتفكير والحقيقة المؤكدة هي أن البشر كائنات مفكرة وكل ما حولنا يدعو للتفكير بدءا من العالم الطبيعي والمادي من حولنا وحتى العالم الاجتماعي الذي شيده الإنسان بكل مؤسساته وأفراده وثقافاته، كل منا لديه أفكار عن هذا العالم ولكن الآخر كشخص هو وحده الذي بإمكانه أن يصحح أفكاري ويقومها، هو وحده الذي يدفعني للتفكير في أمور كان من المستحيل أن أفكر فيها بدونه.
لا يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده لأنه وربما بطبيعته يتوق لوجود الآخر الذي يحاوره فيختلف معه أو يتفق. بالفعل، يتوق الإنسان لإظهار نفسه في الخارج على مرأى ومسمع من الآخرين فمن يتحدث على سبيل المثال يتحدث كي يسمعه الآخرون، ومن يغني، يغني كي يطرب الآخرين، ومن يبني صرحا معماريا يفعل ذلك كي يخلد ذكراه الآخرون، وهكذا حال كل أفعالنا التي تتجه بطبيعتها لتأكيد وجودنا المادي أمام الآخرين، أما التفكير وهو النشاط اللامادي الوحيد الذي نقوم به فهو عملية إعداد وتجهيز لكل أفعالنا المادية. تأتي أهمية الآخر في انه كشخص يعتبر الوحيد الذي بإمكانه أن يبادلني المعرفة ولكن ما شروط هذه المبادلة؟ سأتحدث عند شرط واحد فقط أحسبه الأهم ألا وهو نفي الحقيقة.
إن أي مبادلة معرفية أو أي حوار لابد له من أن يبتدئ بنفي اليقين والذي هو الحقيقة الموضوعية التي تجبر كل إنسان على الإيمان بها، تخيل معي عزيزي القارئ أن تبتدئ حوارا مع شخص يعتقد أنه يمتلك أو يعرف الحقيقة والتي قد يكون مصدرها الدين أو الشرع أو الثقافة ..الخ. كيف يكون بإمكانك أن تعدل أو تناقش أي فكرة يطرحها هذا الشخص؟ إن اعتقاده بامتلاك الحقيقة يجعله محصنا أمام كل ما يخالف أفكاره وذلك بالضرورة يجعله في موقف متعال ينظر نظرة دونية لكل الأفكار الأخرى. إن حديث من يمتلك الحقيقة مع الآخرين، في الحقيقة، ليس حوارا يتم فيه تبادل الأفكار بقدر ما هو أوامر قطعية يصدرها من يمتلك اليقين تجاه من لا يمتلكه، والحال أن هذا الأمر لا يفترض إلا التنفيذ فمن يأمر لا يريد نقاشا مع المأمور بل يريد منه تطبيقا لما أمر به. وتبقى المشكلة الأساسية في عقلية هذا الشخص فإذا كانت بداية حديثه مع الآخرين هي الاعتداد بامتلاك الحقيقة وبالتالي نظرته الدونية للآخرين بوصفهم لا يملكونها فإن نهاية هذه العقلية ليست سوى أنا متضخمة لها من الغرور الفكري ما لها حيث تضع نفسها فوق كل العقول الأخرى. ولكن إذا ما اشترطنا غياب الحقيقة أو اليقين كهدف للحوار فهل يعني ذلك أن يدور الحوار حول موضوعات زائفة أو غير حقيقية؟ بالطبع لا فغياب أو نفي الحقيقة لا يعني زيف الحوار أو كذبه، وكل ما علينا فعله في هذه الحالة هو استبدال «الحقيقة» بألف لام التعريف، بحقيقة أخرى أكثر تواضعا هي حقيقة وجهات النظر. إن وجهة النظر بطبيعتها شديدة الخصوصية وبالتالي فهي نسبية، ونسبيتها هذه نابعة من كونها تحمل في طياتها ذلك الجانب الشخصي من المعرفة وهو ذلك الجانب الذي لا يمكن لأحد ان يراه سواي حيث انها خبرتي الذاتية وتجاربي التي لم يمر بها أي شخص إلا أنا، إنها قصة حياتي التي تظهر في حكمي وتقييمي للأشياء. ولكن على الرغم من نسبية وجهات النظر إلا أن لها بعض الموضوعية فكل وجهات نظرنا النسبية هي كذلك إزاء عالم «موضوعي» يشمل أفرادا ومؤسسات ومشكلات لا حصر لها. وعليه فاختلاف وجهات النظر هو اختلاف إزاء موضوع محدد ومن السهل أن نصل لاتفاق حول وجهات النظر هذه إذا ما عدلنا زاوية نظرنا للموضوع ورأيناه من وجهة نظر الآخرين. ولكن ينبغي علينا أن نتوخى الحذر فاتفاق وجهات النظر ليس اتفاقا حول «الحقيقة» فهذه الأخيرة لا وجود لها إلا في عقول بعض الفلاسفة ورجال الدين، إن اتفاق وجهات النظر هو اتفاق حول وجهة نظر أفضل وهي التي تحصل لدينا عند مبادلة الأفكار ومقابلتها بما يناقضها، بمعنى آخر، عندما نتحاور. فكر فيها.
[email protected]