د. محمد الوهيب
تفتخر الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية بحرية التعبير المتاحة لها، ويعلم القاصي والداني، عربا وغيرهم، بمساحة الحرية في هذا المجتمع. سأحاول فيما يلي أن أشكك في هذه الفكرة موضحا مدى زيفها وذلك بالتمييز بين نوعين من الحرية: الحرية الضالة والحرية المسؤولة.
الحرية الضالة باختصار هي الحرية التي فقدت معالم الطريق وعجزت عن التمييز بين الواقعي والخيالي، وهي التي غرقت في «الشكليات» ووجدت متعتها في النظر إلى نفسها وهي تمارس هذه الحرية. هؤلاء الذين يمارسون هذا النوع من الحرية نجدهم منهمكين في تفاصيل يومية دقيقة غير آبهين بالأسئلة الكبرى التي تهم الإنسان ومصيره ومستقبله، أما عقليتهم فلا تأخذ الآخر في الحسبان على الأقل كونه الشريك الواقعي في هذه الحياة، ولذا فغالبا ما نجد الأنانية سمتها الراسخة. إن حرية هؤلاء حرية شكلية، أنانية وضالة.
أما الحرية المسؤولة فهي على النقيض من الحرية الضالة. تنطلق هذه الحرية من حس أخلاقي وتنظر للواقع ولا تسلم به كما هو، بل تنظر له من أجل تغييره وفقا لنموذج أخلاقي أعلى هو ما ينبغي أن يكون عليه الواقع. وهكذا فهذه الحرية تجد نفسها من خلال العمل، من خلال التأثير المادي. إن انشغال هذه الحرية بالواقع هو ما يجعلها متعلقة بالآخر فالواقع السيئ أو الجيد يؤثر في الآخرين وفي على حد سواء. إن هذه الحرية تأخذ على عاتقها ما يهدد وجودها ووجود الآخرين ولذا فهي قلقة دائما من المستقبل وتريد أن تضمنه قدر استطاعتها.
إن الحرية الأكاديمية التي تصدح بها الأوساط الإسرائيلية وتتغنى بها هي من نوع الحرية الضالة. ففي الوقت الذي يوشك الطلبة فيه على بدء الدراسة، تفتح المدارس أبوابها في غزة وهي مليئة بالحطام والزجاج المتكسر ولا سبيل لإعادة البناء لأن إسرائيل لا تسمح بدخول هذه المواد. أما الطلبة فلا كتب ولا كراريس ولا أقلام لديهم لتعينهم على الدراسة. أما طلاب الضفة الغربية فهم في السجون بالمئات بسبب انضمامهم لتجمعات طلابية لا ترغب بها السلطة، ناهيك عن الجدار الفاصل الذي يمنع الطلبة والمدرسين من الوصول لمدارسهم. هذه الحرية الإسرائيلية ليست سوى «نكتة» بل ونكتة سخيفة أيضا وذلك لأنها الحرية الشكلية، الأكاديمية اللامبالية التي امتنعت عن رؤية الآخر المضطهد. لم يفتح هؤلاء الأكاديميون أفواههم للتعبير عن ضائقة الفلسطينيين، ومن السهل فهم ذلك فالحقوق لا يتمتع بها إلا البعض في دولة عنصرية كإسرائيل.
قلة من الأكاديميين الإسرائيليين من مارسوا حريتهم الأكاديمية وإن أدى ذلك لصدام مع السلطة. كتب نيف غوردون، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بن غوريون الإسرائيلية قبل بضعة أيام في «لوس أنجيليس تايمز» يقول: «ليس بالأمر الهين علي كمواطن إسرائيلي أن أدعو الحكومات الأجنبية والسلطات المحلية، والحركات الاجتماعية والدينية العالمية وجمعيات النفع العام وجميع المواطنين أن يوقفوا تعاونهم مع إسرائيل. ولكني اليوم، وأنا أرى ابنّي الاثنين يلعبان في حديقة المنزل، أصبحت أكثر اقتناعا بضرورة هذه الدعوة، فهي الطريقة الوحيدة لحماية إسرائيل من تدمير نفسها. إن السؤال الذي يؤرقني، كمواطن وكأب، هو كيفية ضمان أن يكبر أبنائي وأبناء جاري الفلسطيني في ظل نظام لا يعرف العنصرية».
قلة من الأكاديميين من هم أمثال «نيف غوردن»، من أدركوا أن تمتعهم بالحرية يعني ممارستها بصورة واعية، بطريقة تؤثر في الواقع الاجتماعي انطلاقا من حس أخلاقي يشمل الآخر ويحتويه بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه. كم هو عدد هؤلاء الأكاديميين لدينا أمثال «غوردون»، الذين حولوا وعيهم صوب الواقع من أجل النهوض به ولم يستغلوا درجاتهم العلمية لتكسب مادي أو وصول اجتماعي؟ سؤال تجيب الصحف ووسائل الإعلام عنه.