«فشل في حبه.. فقرر التخلص من حياته»، هذه الدراما الإنسانية المعقدة تصدرت أخبار الصحف المنشورة أمس، والتي تعبر عن مأساة إنسانية باعتبار ان العاشق (او المحب) لم يكن اميا أو نصف متعلم او ما شابه، وإنما كان من الجامعيين الذين يفترض انهم ـ غالبا ـ محصنون عقليا، بما يمنعهم من التفكير في الانتحار بسبب الاخفاق في الحب!
هذه الواقعة تؤكد رهافة ورقة النفس البشرية، وحاجتها الدائمة الى الارتواء، وقديما قالوا الحب شجرة يجب ان تروى والحب سلطان على كل القلوب والعقول، حتى هتلر ونابليون وربما نيرون كلهم احترقوا بنار الحب، رغم انهم احرقوا العالم!
ما احوجنا في ظل هذا الموج المتلاطم من أحاديث الغضب وثورات الحرية والعدالة والتغيير إلى ان نترفق بأنفسنا وبعقولنا التي سئمت التفكير في المتناقضات وبقلوبنا المتعطشة للارتواء، ومن هنا فكرت في ان تكون لي اطلالة «غير» كل «خميس»، وتكون نافذة لكل الهاربين من ضغوط العمل اليومي والهم العام، ولكل القلوب الظامئة للسباحة في نهر الحب ومعانيه وحتى عهوده وقيوده ايضا، وقيود الحب لها مذاق خاص فهي التي نضع أيدينا فيها دون ان نفكر في الثورة عليها، مادام الحبيبان كلا في واحد، لا خيانة، لا هجر ولا.. الخ!
فلا أحد منا يعلم او يدري كيف دخل هذا القفص بإرادته، فالحب يغزونا جميعا، متعلمين، جاهلين، شبابا.. شيوخا.. بلا تفرقة بين عاشق في سن الشباب وملتاع في عمر الخريف، فالحب كالنهر ينساب في داخلنا ويسري بنا كالعاصفة حين تشتد وتقتلع قضبان المستحيل.
آلاف من الصفحات سطرت وخلدت قصص الحب، وعشرات من شعراء الحب امتعونا في كل زمان، إرث جميل ولكنها تمثل معاني خاصة بكل منا وكأنك تصنع نغمتك الخاصة بك، لا يسمعها غيرك، وتخرج وتسري في دمائك فتسعدك لأنك ايضا اشعلت وجدا في قلب آخر، قلب حبيبك وهنا يأتي القيد الحريري لهذا القلب المحب الذي يرسم لك لوحة حياتك منذ بداية يومك وحتى تقلبك في فراشك من لوعة البعاد! يصبح هذا القيد رفيقا لك حتى باقي عمرك، يصبح سلطانك الذي يأمرك ويحركك من خلال سطوته على قلبك الصغير، وهذا التعايش يخلق نوعا من الصدام تشعر به أكثر عندما تشتعل نار الشوق وأنانية الحب، مما يجعلهما في رفقة نجوم السما.. كل يوم!
وصداقة المحب للنجوم يعرفها كل المحبين فهي نسيان النوم ومجافاته، وأصعب ما فيها هو التقلب على جمر النار، والشاعر اللبناني سعيد عقل يتحدث عن النجوم فيقول:
أحببتك فضعت في الجمال ونسيت ان
النجوم ليست تفاحا على شجرة.. أقطفه!
أما ابراهيم ناجي فأبدع في تصوير القيد الذي يربط المحبين عندما يقول في «الاطلال»:
«أعطني حريتي أطلق يديا
انني اعطيت ما استبقيت شيئا
آه من قيدك ادمى معصمي
لِمَ ابقيه وما أبقى عليا»
ومن القيد إلى لوعة الشوق وحيرة المحب مع رامي، الذي شدت له سومة برائعته «حيرت قلبي معاك» تجسد تزاحم الأشواق عند المحب، فتجعله يهذي بينه وبين روحه على النحو الذي يقول فيه:
«خصمتك بيني وبين روحي
وصلحتك وخصمتك تاني
وأقول أبعد.. يصعب على روحي
تطاوعني لا يزيد حرماني»
مسكين من يحب وما اصعب قيده! حرير من فولاذ (لا فرق) فهو لا يستطيع كسره، وعندما يأتي الليل يظل العاشق ساهرا يناجي حبه وربما يهذي مع سومة:
«ياللي رضــاك اوهـــــام
والسهد فيك أحـــــلام
حتى الجفا محروم منه
يا ريتها دامت أيامه»
قد تأتي لحظات يتحول القيد إلى قيد دائم، فلا يجد المحب بدا من ان يشكو الى ربه ما يلقاه من عذاب الحب، فيقول الشاعر محمد اقبال في رائعته رباعيات الخيام:
«القلب قد أضناه عشق الجمال
والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا رب هل يرضيك هذا الظما
والماء ينساب امامي زلال»
هذه لمحات من أحوالهم، أحوال العشاق «حالهم حال» وتجد نفسك محتارا مما يحدث لهؤلاء، وحتما لابد ان تتذكر حديث الست، عندما تغني لهم «بتنكر ليه»، عندما تشدو قائلة:
«هوه انت خايف من قلبك، يفتن عليك ويبان حبك
مدام تحب بتنكر ليه، واللي يحب يبان فـ عنيه»
صدقوا او لا تصدقوا، مهما كان عذاب الحب ولوعته فالعشاق أبدا لا يريدون لقصتهم او عشقهم نهاية، حتى لو أدمى الحب قلبهم، حتى لو استبد بهم الشوق واللهفة ونفد الصبر وافترسهم الشك، فإنهم يستسلمون، وان حاولوا دوما التمرد عليه، فهم متأكدون ان حياتهم من دون الحب ستغدو كريهة، واتذكر هنا بيتا من الشعر اللبناني الجميل ليوسف غصوب.. يقول:
ان قلبي بعد ان مات الهوى
قفص أفلت منه البلبل!
عندما قرأت خبر إقدام الشاب الجامعي ـ الذي بدأت به حديثي ـ على الانتحار بسبب هجر حبيبته له أدركت تماما انه رغم لوعة الحب والوجد لا يستطيع ان يعيش من دون حب فهانت عليه حياته.. يا مسكين! فما أعذب هذا كله وما أدفأ القلوب المفعمة به، وما اتعس القلوب التي جفت منها ينابيع العشق، هي حياة جافة كالحطب، ومن الخطأ ان نعيش يوما واحدا دون ان نحب، وليكن مسك الختام عند شاعرنا محمد إقبال الذي يقول:
ما أضيع اليوم الذي مر بي
من غير ان اهوى وان اعشقا
.. والعبرة لمن يتعظ!
[email protected]