ناصر الخالدي
في شوارع القاهرة حيث ازدحام السيارات والدراجـات الهــوائيـة والنارية والمـسـاكن الممتلئـة بالبشر تـتعالى الأصـوات ويختلط بعضـها ببعض فـلا مكان للهدوء، ويتـشابه الناس في المعاناة فلا مكان للحـسد والأحقاد، ومن خـلال النوافـذ تتجـه عـيـون الأمهـات لترصد خطوات الأبناء خطوة بخطوة لتجسد الحب الصادق الـذي تظهر ملامـحه واضـحة عندمـا تتجـمع الأسـرة المصرية حـول طبق الفول الذي تستمد من خـلاله قوة تساعد على تحمل الشمس ومقاومة أعباء الحياة.
لو تجـولت في المـدن والأرياف المصـرية لرأيت الكرم الصـادق الذي لا تشوبه شـائبة ولا تخالـطه عائبة ولرأيـت العجائز تـفيض بالعاطفة وجوههن، وتولد كلمات الجمال من أفواههن، ولا تستغرب من كرم الفلاحين، فهذه طبيعـتهم التي جبلوا عليهـا منذ القدم، فرغم الحاجة ورغم ندرة الموارد تجد الفلاح الأصيل يقاسـمك الخبزة التي بيـده ولا يحمل بداخله شيئـا سوى انه يتمنى لو كان عنـده أكثر من ذلك ليقوم بواجب الضيافة.
وأمـا النيل فـهـو مـصـدر الراحـة ومنبع السـعادة ومجـرد ساعـة من الزمن يجلسـها المرء على ضفافه تنسيه الهموم والغموم وكل مـآسي الحـيـاة وتجـعله يفـيـض بالكلمـة والعـواطف كفـيض النيل، وقـد سـافر أحـد أصدقـائي إلى مصر حيث قـرر الدراسة هناك ولم تمض ســوى أيام قليلة حـتـى بعث لي برسالة عبر الجوال كـانت تحمل كلمات أدبية وحروفا ذهبـية، ولم تكن هذه القدرة عنده من قـبل لكنه النيل وهدوؤه الذي يجـعل الأقـلام تجـري على ظهر الـصفـحات الـطويلة كمـا تجـري السيـارات في مـيـادين السـباقـات العريضة.
وما أكثر الأدباء والشعراء في مصر، وأول من عرفت منهم أميـرهم شوقي ثم انتقلت إلى حـافظ إبراهيم وتصـفحت ديـوانه فوجـدت الكلمـة الصادقة والعـاطفة الجـياشـة حيث المراثي ومـا بهـا من بكاء وتوجع، وأشعار الحنين والتـذكـار، ثم تجـولت في المكتـبـات فعـرفت المنفلوطي وكتـاباته الرقيقـة وقرأت للرافـعي وكـتـاباته التي تفـيض بالجـزالة والصـور البلاغـيـة، أما الـعقـاد فـالبلاغـة المتراكبة، حيث لا مكان للأخطاء الإملائية، كل هؤلاء كانـوا من نتاج مصـر وإذا تركنا الأدب والأدباء وجـدنا آلافـا من المبـدعين وكلهم من مصر من أطباء ومدرسين ومهندسين ودكاترة وغـير ذلـك، فلا غـرابة عندمـا نكتب رسـائل إجلال وتقـدير لمصر المحروسـة التي مازالت تبـادلنا مـشـاعـر الحب والأخـوة ومـازالت تستقبلنا بكل لهفة وشوق.
جولة
لا يوجـد عالم أو مـثقف أو مـفكر اكتـسب العلم عن طريق الحظ أو الصـدفة ولكن هناك عالما سهـر الليالي ونقب في الكتب وغاص في أعمـاقها ليسـتخرج الدرر النفيـسة، فنهل من بحـور العلم ما يرفع مـن مكانته ويجـعل له احتراما بين البشر، وكذلك المثقف الذي تمرس على الحوار مـن خلال النقاش الهـادف البناء ومن كثرة المطالعات والبحث والقراءة، وهكذا حـال المفكر وجـميع النـاجحين في مـخـتلف المجـالات، لكن النجــاح لا يأتي صـدفـة إنما يحتاج إلى عمل واجتـهاد ومطالعة وبالتالي الوصول رغم كل ما يقال ورغم جميع الأسوار والقـيود فـالإرادة تحطم كل شيء والإصـرار يفتح أمنع الحصـون والذي يعشق النجاح لا يرضى بغير القمة ولو أجريت بحثا عن حياة الناجحين ستجـد أن المعاناة كانت تحيط بهم من كل الاتجاهات ولكن لا وقت للالتـفات إلى مثل هذه الأمـور، بل أصروا على المواصلة إلى أن حـققـوا أهدافهم وغـايتهم فكتب التـاريخ أسماءهم، فكانوا دروسا لمن أراد الاستفادة.