ناصر الخالدي
بين الازقة والمنعطفات، بين الجدار والجدار عجوز تقادمت عليها السنون فلم تبق لها الا صوتا ان سمعته اختنقت بداخلك المشاعر والاحاسيس، ووجها ان رأيته فستجد به من الكبر اودية وهضابا وجسما نحيفا ان نظرت اليه فستعرف بشاعة الفقر وستجد ان هذه العجوز مدينة للحزن واللوعة اجتاحها الفقر منذ سنوات فلم يدع معلما من المعالم الجميلة الا طاف يسحقه بكل عنف، وهي على ما بها من العسر والضيق ليست الا عاصمة للكفاح والنضال ونموذجا للعزة والاباء لم تنحن الا ركوعا لرب العالمين.
جمع الخبز مصدر عيشها وبدونه ليس الا الضياع والتشرد.. تسطع الشمس عليها فتمدها بالقوة والصبر لتبدأ الرحلة المتعبة من اجل البحث عن اي كسرة خبز ملقاة على الطريق، تنحني من اجل التقاطها ولو كان بها من العفن ما كان وتنتهي الرحلة - ان انتهت - وهي متعبة مجهدة، اضناها المسير واتعبها البحث العسير لكنها الحياة التي لم تجد غيرها فوافقت على قبولها مجبرة، وتعود ان عادت الى بيت ليس به غير الوحشة والظلام المخيف، وهي على ذلك تعول ابناءها الصغار وترى فيهم ما يجبرها على العمل لعلها ترسم البسمة على وجوه هؤلاء الايتام الذين لم يجدوا الا الفقر والمعاناة ولم يرثوا غير اسم ابيهم وحظ عاثر لا يجدون منه مفرا.
حكاية طويلة تحمل بداخلها صورا وعبرا.. خفايا واسرار فيما بين السطر والسطر، دمعة تبحث عمن يمسحها وجرح يبحث عمن يلملمه وخاطر مكسور يبحث عن يد تجبره وتعيد له الامل.. مأساة هذه العجوز لا تختلف عن مآسي الكثير من الذين يعيشون في زحمة الفقر والعوز الا انها لا تجد من يشاطرها المأساة وان كان لها ابناء، فمازالوا في سن لا تسمح لهم بالعمل وان سمحت فقلب الام لا يسمح، ولو نظرت اليهم صبيحة العيد والذهول بأعينهم لعرفت ان الحياة لها عدة اوجه ولو نظرت اليهم وهم يتقاسمون فتات الخبز ويضحي الواحد منهم بنفسه من اجل الآخر لعرفت انهم على ما بهم من الفقر يملكون عاطفة لا يملكها الاثرياء على ما بهم من الرغد والرفاهية فجد ولا تتردد وصدق ولا تكذب فانها قصة واقعية وقفت على فصولها وعاينتها بنفسي ومازالت صورة الخبز المتراكم على الارض في مخيلتي ومازلت احفظ الطريق المؤدية الى بيتها الصغير الذي تفوح منه رائحة الذكريات الموجعة، ولا ادري هل مازالت حية ام غيبها الموت؟ على انني استطيع التأكد من ذلك، فاذا كان الخبز موجودا عند بابها فالحمدلله لانه يدل على بقائها على قيد الحياة واما ان كانت الريح العاتية غيبته فرحمها الله واعان ابناءها الصغار.
افكر احيانا في الاسباب التي دفعت هذه العجوز الى ان تعيش بهذه الطريقة فلا اجد الا الظروف الصعبة تجيب انا التي فعلت ذلك. ولكن من وراء الظروف؟ لاشك ان وراءها قلوبا متحجرة لا تعرف الرحمة، لمثل هذه القلوب اقول: الراحمون يرحمهم الله.