ناصر الخالدي
رفعت السيدة رأسها الى جاريتها بعد ان ضمت طفليها الى صدرها وهي تقول بصوت مختنق من البكاء «قلبي يحدثني انها آخر مرة اراهما فيها» فصاحت الجارية «معاذ الله يا مولاتي بل أرجو أن تريهما مرارا في كل عام كما كنت تفعلين اليوم» فتنهدت السيدة وقالت «آه إنك ترجين محالا.. فإن غريمنا ظالم مستبد صاحب سلطان مطلق وقد انغمس في ملذاته وتمتع بكل ما تشتهيه نفسه واصبح لا يبالي أحدا هلك عطشا او مات جوعا او ذاب لوعة، انه رجل لا شفقة عنده ولا رحمة وانما تهمه ملذاته»، قالت ذلك وهي على وشك الانهيار من شدة الحزن واللوعة، فقالت الخادمة: «تلك حال الرجال كلهم يا مولاتي فإنهم اصحاب السيادة، وقد فضلوا انفسهم على المرأة فحللوا لأنفسهم ما حرموها منه وتمتعوا بما حظروه عليها، يتزوج الرجل عدة نساء ويقتني الجواري والسراري ويمنع المرأة من ان تتزوج برجل تحبه ويحبها ولكن..».
فقطعت السيدة كلام الجارية وقالت: «ليس بين الرجال من فعل كأخي ولا بين النساء من أصيب بمصابي، زوجني برجل جمعني به وحببه الي وعقد له علي، ثم حرم علينا ثمار العقد مما أحله الله لأحقر خلقه».
دار هذا الحديث بين العباسة أخت هارون الرشيد وجاريتها عتبة، اما العباسة فقد كان الرشيد يحبها ويدنيها من مجلسه وكان يحب حديثها ويأنس لكلامها، وفي قصور الخلافة رأت العباسة جعفر البرمكي وكانت له ايضا مكانة عند الرشيد، فأحبته وأحبها وحاول ان يتزوجها فلم يوافق الرشيد الا بعد ان اشترط شرطا عجيبا وهو أن يتم الزواج دون ان يكون بينهما ما يكون بين الزوج وزوجته، فوافق الاثنان وتلاقيا سرا مرارا وتكرارا فكانت ثمرة اللقاء طفلين كأنهما اللؤلؤ المكنون لا يرتد الطرف عنهما الا عاد اليهما من جديد.
وبينما كانت العباسة تذوب شوقا لرؤية طفليها وتبكي على حظها العاثر كانت جاريتها عتبة تحاول أن تخفف عنها اللوعة، ولم تدر العباسة ولا عتبة أن الحديث الذي يدور بينهما ليس سرا فخلف الباب يوجد شاعر يتجسس على حديثهما طمعا في المال مقابل كتمان هذا السر وهذا الشاعر له مكانته في قصور الخلافة.
انتشر الخبر حتى وصل الى هارون الرشيد فانتفض من الغضب وأخذ يدور في انحاء القصر يتحقق من صدق الخبر، وفي هذه الاثناء كانت العباسة تستعد للسفر مع زوجها وولديها ولكنها قتلت قبل ان يتحقق حلمها ليس هي وحدها بل حتى زوجها لاقى نفس المصير، أما الطفلان الحسن والحسين فقد فاضت روحاهما على يد السياف الذي بكى لأول مرة في حياته وتمنى لو أنه يملك شيئا لانقاذهما، وكل هذه المأساة ما كانت لتحدث لولا وشاية الحساد الذين نقلوا الخبر من أجل الانتقام.
هكذا كانت النهاية مؤلمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بها من العبر دروس وصور، فيا من تنقلون الأخبار وتحرفونها وتغيرونها من اجل مصالحكم وحتى تشيع العداوات بين الناس اتقوا الله فيما تسمعون واتقوا الله فيما تقولون.
الذين تجري في دمائهم النميمة هم انفسهم الذين تسببوا في خراب كثير من البيوت وهم انفسهم الذين تسببوا في اشاعة الحقد والكراهية في نفوس الاخوة والاصدقاء، فالكثير من الناس لا هم لهم إلا القيل والقال.