ناصر الخالدي
تشيب رؤوس العلماء من أجل مسألة ويصلون الليل بالنهار من أجلها، وتشيب رؤوسنا من اجل الدنيا والتفكير فيها، ومن أجل الأحقاد والنزاعات، وكتب الشعراء والأدباء عن الشيب ووقاره وجعلوا له منزلة ومكانة ونحن رأينا فيه غلظة وبشاعة والمتأمل في دواوين العرب يجد انه لم يذم الشيب إلا من كان يبحث عن هوى النفس ورضاها وما اكثرهم في يومنا هذا.
نظرت الى المرآة فوجدت برأسي شعرة بيضاء ورحت افتش عن غيرها فوجدت غير واحدة ومضت ساعة من الزمن وانا لا افارق المرآة كأني أطالبها بدليل او كأني أريد التأكد من ملامحي ولو وقفت الف سنة لما تغير شيء، فلا حل إلا بان استسلم للأمر الواقع وأرضى بنصيبي من الشيب، وحصيلة ما وجدت ثلاث او اربع شعرات لها نفس اللون، وان اختلف الطول، لم اجتث واحدة منها ورضيت بها جميعا الا انني بحثت عن سبب لذلك فقلت في بداية الأمر لعلها وراثة، ورحت أقلب سجلات العائلة فردا فردا فلم اجد ذلك ورجحت ان يكون السبب هو التفكير وقلت في نفسي أأنا أفكر؟ أفكر بماذا؟ وكأني بذلك انكر انني دائم التفكير بالمستقبل وبكل ما يخطر على البال أفكر بالمعيشة والله قد تكفل بامرها، وافكر بما يكون وبما لا يكون وكل الذي يريده الله سيكون ولو كان مني ما كان، وكنت فيما مضى افكر في امر الدراسة وكنت قد عزمت على استكمال دراستي في الخارج وجهزت اموري ورتبت لذلك، فلم يكتب الله لي من ذلك شيئا وكنت قبل اعوام افكر في وظيفة اشغلها واجتهدت من اجل الحصول عليها وبذلت لها الأسباب حتى لم يكن بيني وبينها إلا أيام، فعافتها نفسي وتركتها بإرادتي ورأيت الخلاص منها اكبر امنياتي في ذلك الوقت، وقصص كثيرة لا يتسع لها الوقت الآن ولذلك قررت ان اترك الامور تسير دون ان اشغل نفسي بالتفكير بها.
والتفكير امر لا بد منه ولا يعيش الانسان بغير تفكير الا كانت حياته على غير ما يرام ولكن التفكير له درجة معينة ان تجاوزها صارت الحياة تعبا وجحيما وان قصر عنها صارت تخبطا وجنونا، فإذا فكر الرجل بأفعاله وتصرفاته صار لزاما عليه ان يحذر من كل ما يعيبه وينغصه وكلما زاد عمر الانسان وجب عليه ان يراقب افعاله اكثر من ذي قبل ويتعظ، خصوصا ان ظهرت برأسه اقاحي الشيب فلا يليق به افتعال المشاكل ولا يليق به ان يكون مراهقا يخرج من الصباح ثم لا يعود الا آخر الليل، وما كنت اظن اني سألتقي في يوم من الأيام بواحد من هؤلاء الذين لم يزدهم الشيب الا غلظة ولم تغير فيهم الايام الا ان زادتهم طيشا وجهالة، ويحكي لي احد الثقات عن رجل كبير السن لا تكاد ترى في رأسه شعرة سوداء وهو متهالك البنية له اكثر من موعد مع اكثر من طبيب، قام هذا الرجل وتزوج من فتاة في مقتبل العمر تزوجها ليستمتع بشبابها وتزوجته لتستمتع بماله، ورأيت بنفسي افظع من ذلك واغرب منه بكثير ولعلك تسأل ماذا رأيت؟ رأيت رجلا سيئ المنظر دميم الخلقة لحيته بيضاء وشعره ابيض ولكن افعاله وتصرفاته كلها سوداء فلا تراه الا وهو سكران يتمايل من شدة السكر، وهو دائم الخلافات والمشاكل ظالم من الدرجة الأولى، زوّج ابنته من اجل المال وباع بيته من اجل السفر ومن اجل بائعات الهوى فما زاده الشيب إلا طيشا وجهالة.