ناصر الخالدي
لا أعرف عنوانا للألم ولا أدري له مكانا أو وطنا رغم أنني التقيته أكثر من مرة وزرته أكثر من زيارة وكانت لي معه صولات وجولات ورأيته في عيون الكبار والصغار بأكثر من شكل وأكثر من صورة يستوطن العين البريئة حتى يسيل مدامعها، ويحاصر القلب حتى يقتل كل أفراحه ولو رأيته وهو يفترس الأطفال بلا رحمة وبلا إنسانية لعرفت أن الألم يشبه كثيرا من الذين من حولنا يشابهم في وحشيتهم وبشاعتهم ويشابهونه في ظلمه وتمرده.
بعد أن نشرت مقالي «كلاب مدللة» جاءتني رسالة عبر الهاتف تقول الرسالة «يا أخي الفاضل هذه الكلاب أفضل بكثير من ابني على الأقل إن تألمت من أسنانها وجدت من يعالجها» قرأت الرسالة ووقفت أمام كل حرف من أحرفها وفي نفسي حزن وألم وأعدت قراءة الرسالة مرارا وتكرارا حتى حفظتها.
على ضوء الرسالة اتصلت بالمرسل وتحدثنا مع بعضنا البعض حديثا أخويا تناول مواضيع كثيرة، أما المرسل فكان رجلا لا أدري كيف أصفه، أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه صاحب نفس عزيزة وضمير حي أوجعت قلبه أحداث الحياة وضاقت عليه من كل الزوايا والاتجاهات وألح عليه الفقر أيما إلحاح والتفت عليه الخطوب من كل جانب وسالت أودية الظلم حتى أغرقت مركبته وأحالت كل أيامه إلى التعب والعناء وكل هذا لأنه من فئة البدون.
حدثني عن ابنه عبدالمحسن الذي يعاني من التهاب في أسنانه، وتخيل طفلا في عمر الزهور يعاني من ألم الأسنان في هذا البرد القارص وتخيل أبا لا يملك دينارا يعالج به فلذة كبده وتخيل أما تحاول تخفيف الألم ويتغلب عليها لتقف أمامه وقفة العاجز المغلوب على أمره.
عبدالمحسن الطفل الصغير احتمل الألم لمدة شهرين ودخل مع المرض في صراع طويل وغابت عنه الابتسامة الجميلة وصار يذهب إلى المدرسة بغير نشاط وحيوية ويجلس على كرسيه الخشبي ولسان حاله يقول «من يقتل هذا الألم؟» وعندما يسمع رنين الجرس ويركض الأطفال إلى الفرصة يبقى عبدالمحسن في زنزانة المرض يحاصره الألم.
وبعد أن شرح لي الأب حالة عبدالمحسن اقترحت عليه أن يذهب إلى مدير المركز التخصصي لطب الأسنان في منطقة الفروانية د.داود الخليفة فهو رجل مشبع بالإنسانية وله أياد بيضاء وقلب داود الخلفية أبيض يتسع لعبدالمحسن، وبعد تردد وافق الأب على اقتراحي فاتصلت بالدكتور الخليفة وشرحت له المأساة ووافق على استقبال عبدالمحسن وزال ألم الشهرين في ساعة جلسها عبدالمحسن ليعالجه الدكتور وقبل العلاج سأله كيف تحملت الألم كل هذه المدة؟ فلم يجد للسؤال أي إجابة ولعل من الضروري أن نتقدم بجزيل الشكر للدكتور داود الخليفة على هذا الموقف الإنساني الذي يعجز اللسان عن وصفه.
أمثال عبدالمحسن أكثر مما يتصور أحد يمرضون ولا يجدون فاتورة العلاج وترفض وزارة الصحة استقبالهم إلا بعد دفع رسوم العلاج التي لا يستطيع الكثير منهم تحملها لضعف الوضع المادي، فالكثير من الالتزامات تحيط بهم ولا مجال للرأفة أو الرحمة، ولهذا فعلى مجلس الوزراء أن يفتح المجال لأبناء البدون لكي يعالجوا في المستشفيات الحكومية كما كانوا من قبل ونحن ولله الحمد في بلد خير ونعمة.
وهنا وعبر هذه الزاوية أوجه رسالة إلى كل من بقلبه رحمة وإلى كل من يدعي الإنسانية وإلى كل وزير من الوزراء وكل عضو من أعضاء مجلس الأمة وإلى كل من بيده سلطة أن يتدخل لرفع الظلم عن فئة البدون وإعطائهم أبسط حقوقهم «حق العلاج» ورسالة خاصة إلى أعضاء مجلس الأمة الذين يدافعون عن فئة البدون إذا كنتم صادقين في مطالبتكم ودافعكم، فساهموا في إعطاء هذه الفئة حق العلاج ولكم جزيل الشكر والتقدير.