ناصر الخالدي
في الطرقات العامة وفي الشوارع ومحطات الباصات وفي الأسواق والحدائق والمنتزهات ومثل ذلك عند أبواب المطاعم، كثيرا ما نصادف بعض الأشخاص الذين تبدو عليهم آثار الألم واضحة ويبدو أن الشقاء هو نصيبهم من هذه الحياة، إلا أننا لا نكلف أنفسنا محاولة الدخول في حياتهم والتعرف على قصصهم ليس من باب الفضول ومضيعة الوقت ولكن من باب العظة والاعتبار وهذا الأمر واحد من أكثر الأشياء التي أحبها أثناء السفر فكلما لفت انتباهي واحد من هؤلاء الذين يعيشون مع الألم والمعاناة أحرص جاهدا على أن أقتحم أسوار حياته الشخصية لأغوص إلى آخر نقطة في حياته من البداية وأقف عند النقطة التي أنا وهو فيها، إن في حياة الناس أكثر مما تتصور ومما أتصور إن في حياتهم العجائب والغرائب فمهما ضقت ذرعا بحياتك وبواقعك تأكد أنك أفضل بكثير من أولئك الذين يقفون على سلات المهملات ليستمدوا منها ما يؤهلهم للعيش والبقاء على قيد الحياة وتأكد أنك أفضل من الذين يقفون على أبواب المساجد عند أحذية المصلين في أعينهم ذل السؤال وفي أبدانهم غطرسة الجوع وفي خطواتهم لعنة الضياع وفي نومهم كوابيس من الرعب والتشرد.
منظر لا أستطيع نسيانه، رجل أعمى يحمل بيده اليمنى عصاة خشبية أظنها بلغت الأربعين عاما وفي يده اليسرى علبة من اللبان يستدل بالأولى على الطريق ويعتمد على الثانية في الكسب والرزق ليضمن الحياة لأولاده الثمانية، جلس معي على نفس الطاولة في جلسة عابرة كانت مدتها مقدار الانتهاء من شراب عصير الكوكتيل ليخبرني بتلك العجالة السريعة أنه رغم الألم يجد المتعة ورغم المعاناة يشعر باللذة وأنه يكافح من أجل البقاء ويعمل مهما كانت الظروف ومهما كانت الموانع لأنه يرفض سؤال الناس وهو منذ أعوام طويلة يعيش على بيع العلك من الصباح إلى أن تغيب الشمس وهو يتجول في الطرقات مع تلك العصاة التي أضناها المسير، إنها عبرة للذين اعتادوا الكسل وأحبوا السخط وعدم الرضا، حتى أصبحت حياتهم فارغة لا تحمل أي هدف، اليوم يشبه الأمس والأمس لا يختلف عن اليوم، إن مثل هؤلاء يحتاجون الى أن يتعرفوا على نماذج من المكافحين في مشارق الأرض ومغاربها، ليتعرفوا على حياة الأشخاص الذين لو نام الواحد منهم نهارا كاملا لا تجد أسرته مفرا من مذاق الجوع ومكابدة الخطوب.
رحل الأعمى وبقيت وحدي أفكر في أمر هذه الدنيا فهذا رجل يبيع اللبان، والبنوك مثقلة بالأرصدة المجمدة التي تكفي أصحابها ملايين السنين وذاك ينام بالشارع وتوجد آلاف المساكن الفارغة التي أشبه ما تكون بمدينة الاشباح وهذه امرأة جائعة لا تجد ما يكفيها وأولادها وفي الثلاجات ما يكفي أمما، وتلك يقتلها البرد القارص ولا تجد الملابس الكافية وفي أدراجنا ما يستر سكان أوروبا وأفريقيا، البعض يتمسك بالحياة وكأنها تريد الفرار منه يخاف الواحد منهم من الفقر ومن الجوع ومن الحاجة وسؤال الناس وأن يبقى شيء في خاطره من ملذات الدنيا الفانية ويحرص على الحياة الكريمة ويخاف أن يخسر الرفاهية المطلقة وأن يفقد سبل الراحة ولا يخاف من النار وما بها من إذلال وتنكيل وحرمان وتقليل فيا لهذه الدنيا الفانية أغرت بزخارفها أقواما فأضحى الواحد منهم متخبطا لا يعرف إلا الشقاء، فيا أيها الناس إن السعادة لا تشترى بالمال إنها أعطية يعطيها الله لمن شاء من عباده فسألوا الله إياها وأعاذنا الله وإياكم من الهم والحزن.
الزحمة التي نشاهدها اليوم في شوارعنا لا تحمل إلا أمرين، خلل في تصميم الشوارع والطرقات أو خلل في نظام إصدار رخص القيادة بحيث يحصل عليها من يحمل واسطة وتمنع من المستحقين ويكفي ما نشاهده اليوم من قبل البعض (منتهى الغشامة)، والبركة في الواو فكفى كفى.