تتكبد الدول سنويا مبالغ طائلة بسبب الفساد، ولا تقل الخسارة التي تلحق بالمال العام بسبب هذه الآفة، عن تلك التي تلحقها الحروب والكوارث الأخرى، والفرق أن هذه الأخيرة مبررة وعلنية، بينما التي يتسبب فيها الفساد تكون تحت المداراة غالبا، خصوصا في الدول التي تفتقد الشفافية وليست لديها صحافة حرة، أو برلمانات ديموقراطية، فإن الفساد يجد فيها ملاذا آمنا.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن الفساد هو فقط هذا المتعلق بالمال، فهناك أيضا الفساد الإداري والمؤسساتي والأخلاقي والفساد السياسي. وبذلك يمكن أن نطلق على الفساد مصطلح «روماتيزم الدولة» لأن وجعه يتنقل بين مفاصل الجسم الواحد.
والفساد هو أحد أبرز معوقات التنمية والتطور وحتى التحضر، ويرى بعض الاقتصاديين أن الفساد له علاقة بمستوى دخل الفرد، بحيث يحرم الفرد الذي تتعرض بلاده للفساد من الامتيازات المادية، ومنها مستوى الدخل. كما «تتبعثر» الفرص الوظيفية، وتنتشر ما يمكن ان نسميها «بطالة الكفاءات»، وهي البطالة الأقسى، والتي تتعلق بتحويل مسار الاختصاصات والكفاءات في غير موقعها الأساسي، بحيث تمتلئ الوظائف بالمستويات العادية، فتضطر الدولة لتشغيل الكفاءات وأصحاب الاختصاصات في غير مواقعهم التي تخصصوا فيها.
قبل أن يتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة أو «رقمية» كان الفاسد يتسبب في ضرر الدولة التي يظهر فيها فقط، أما اليوم فقد أصبحت هناك «عولمة الفساد» أي ان بعض عمليات الفساد التي تحصل في دولة ما يكون أفرادها في أكثر من مكان، وهناك عدة أمثلة على ذلك وقعت في الآونة الأخيرة، لا أجد نفعا لتسميتها بالتحديد، كون الذي يعنينا منها هو النموذج وليس الواقعة.
وهذا يعني أيضا أننا لسنا كما كنا في السابق نعتمد على نظام حماية المدن بالأسوار، بحيث إذا أغلقنا سورنا على أنفسنا حققنا الحماية المرجوة، بل أصبحت المشكلة أوسع من ذلك بكثير، لذلك ظهرت منظمة الشفافية الدولية، عام 1993، ثم بدأت بعد سنتين بإصدار تقرير عن الفساد، والشفافية، وللأسف فإن الدول العربية دائما تحتل مراكز متأخرة في محاربة الفساد وفي الشفافية بشكل عام. إذ تحتل الدانمارك المرتبة الأولى بين دول العالم ونسبة الفساد فيها لا تتجاوز 0.7، تلتها السويد، ثم نيوزيلاندا وسنغافورا وفنلندا وسويسرا وآيسلندا وهولندا واستراليا وكندا. وعلى الرغم من جهود هذه المنظمة إلا ان دورها ليس علاجيا، فهي أقرب الى طبيب الاشعة الذي يصور المرض فقط.. وبالتالي فالعقوبات القانونية هي العلاج الأنجع. وقبلها طبعا العلاج الأخلاقي.. وهذا عادة يفترض أن يؤخذ على جرعات تربوية للفرد منذ الصغر.
[email protected]