عندما كنت متطوعا في دار رعاية المسنين خلال الفترة من (١٩٨٣-١٩٨٧) أتعمد خلال زيارتي للنزلاء الإطالة في الجلوس معهم خاصة الذين لديهم القدرة على استقبالي وتبادل الحديث معي ويعيشون مرحلة التكيف مع واقعهم الأليم وتناسوا أبناءهم وأسرهم وأيقن بعضهم ان قسمة الخالق حكمت ببقائه في الدار حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، تختلف نفسيات النزلاء من واحد لآخر باختلاف نظرتهم لأيام العمر المتبقية! فمنهم من يرى ان أمنيته في الحياة تتحقق في زيارة (احد عياله) له ليراه قبل ان يفارق الدنيا، وآخرون يفضلون طي ذكرى الأبناء والأسرة ويرسلونها تعبر حدود المكان فتختفي مع رياح الزمن، ومنهم من لا يرغب في ذكر أحاديث (وسوالف) عن الحاضر الذي توقفت عقارب ساعاتهم الميقاتية عنده، بل يفضلون الحديث عن الماضي الذي يعبر عن بقاياهم المبعثرة ! لكن نزيل غرفة (2) يمتاز بخاصية وضعه بغرفة (خصوصي) حولها مع الأيام الى مملكة يعيش فيها ما تبقى له من أيام، فقام بعمل ديكور يحاكي خمسينيات القرن الماضي.
زرته ذات مساء ووجدته يحتضن آلة العود التي اشتراها من حر ماله، يعزف على أوتاره بأغان كويتية قديمة ذات طابع حزين، لم يأبه بي ولا بوجودي، استمر في العزف بإتقان حتى انتهى من هوايته وهو مستمر في تجاهلي دون اي علامة للترحيب بي ! فجأة بادرني قائلا: «أسوي لك شاي»؟ قلت: لم لا. لحظات وإذ به يحضر لي الشاي ويجلس بجانبي: تفضل اشرب الشاي قبل ان يبرد. قلت: سلمت يداك يا عم. ليس من المهنية ان اسأله كيف حالك؟ او ماذا عملت اليوم؟ او كيف قضيت نهارك؟ تلك أسئلة من السخف ان يبادر بها موظف لسبب بسيط جدا وهو معرفتنا بأحوالهم وصحتهم ونفسياتهم وما يعانونه من آلام لا تطيقها النفس البشرية. أعود لمضيفي المسن.. كعادتي تبادلت الحديث معه وكأنه احد رواد ديوانية كويتية أو جليس احد مقاهي الديرة. قطع (سوالفنا) بشكل مفاجئ وخرج الى (بلكونة) حجرته وظل واقفا بصمت وسط اجواء باردة دون ان يأبه، قربت منه وإذ بنظراته تمتد باتجاه محدد وكأنه يناظر أحدا هناك في البعيد!! تركته دقائق ثم أشعرته بقربي منه اكثر حتى أشاركه صمته المطبق متجنبا الحديث في تلك اللحظات او توجيه سؤال سخيف مثل (عمي شفيك؟) تستعجلني برودة الطقس ان ابلغ مرادي واعرف ما به. سألني: «تشوف» مقبرة الصليبخات هناك؟ وهو يؤشر باتجاه موقعها، قلت «وأنا أدرك ما يعنيه جيدا» يا عم: انها بعيدة عنا.. قال: لا بل هي قريبة جدا منا، نحن نعيش فيها، تأتي الجثامين كل يوم لتشيع لمثواها الأخير !! نشعر بهم لان الفارق بيننا وبين تلك الجثامين بسيط جدا، نحن نقف اليوم لنلحق بهم في الغد، لكن الغد الذي انتظرناه طويلا لم يأت بعد !! قلت: بعد عمر طويل يا عم.. يصمت.. سرقت الآلام فرحته باللقاء بي. (كعادتهم) خيم الاسى والحزن عليه. سألني: ممكن تفهمني «ليش حاطينه بالقرب من مقبرة الصليبخات؟»