قضية القدس، تلك القضية التي تكبر لكنها لا تشيخ، بل تزداد نضوجا وحيوية، لأنها ـ باختصار ـ تتعلق بعقيدة ووجدان كل مسلم على وجه هذه الأرض، والوجدانيات لا تهرم ولا تموت بل تتجدد وتنمو وتكبر مع مرور الزمن والأيام.
القدس مرة أخرى هي جوهر الصراع، والمسجد الأقصى وساحاته هو ميدان الصراع الحقيقي على ارض الواقع بين مشروع يهودي احتلالي عنصري وهوية عربية إسلامية عصية على الهزيمة والنسيان.
ولعل أخطر ما يدور اليوم في القدس هو محاولة طمس أو تغيير هوية المدينة المقدسة، ومحاولة الاحتلال الصهيوني تغيير معالم القدس العربية والإسلامية، ومحاولة فرض واقع جديد يعزز ويكرس يهودية القدس، وذلك من خلال انتشار الجسم الاستيطاني السرطاني المحيط بالقدس على وجه الخصوص، بالمقابل العمل الدؤوب على هدم منازل المقدسيين لصالح إقامة الحدائق التوراتية، وتسريع الحفريات في البلدة القديمة في محاولة لخنق الوجود العربي فيها.
ويأتي في قمة الأخطار التي تحدق بالقدس وضع الحواجز والموانع التي تحول دون وصول المقدسيين إلى المسجد الأقصى، في حين تعزيز وحماية ورعاية الاقتحامات الدائمة لساحات المسجد الأقصى من قبل قطعان المستوطنين اليهود، بالاضافة لتعالي الأصوات المتطرفة التي تنادي بتقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود على غرار ما فعلوا بالحرم الإبراهيمي في الخليل.
إن الجرأة الصهيونية على القدس والمسجد الأقصى اليوم تمثل جرس الإنذار لكل متتبع ومتفحص وفي هذا الوقت بالذات الذي يظن فيه الكيان الصهيوني أنه ينفرد بالقدس في خضم انشغال المحيط العربي بقضاياه الداخلية وهمومه المعيشية وترتيب البيت العربي الداخلي.
ولكننا نؤكد ونحذر من أن قضية القدس هي بوصلة العرب والمسلمين جميعا، وأنها القاسم المشترك الأكبر الذي لا يختلف عليه احد، وان الإقدام والجرأة الصهيونية على المسجد الأقصى سيكون العامل الموقظ والمحرك لضمير الأمة جمعاء، فما ان يتم الاعتداء على المسجد الأقصى حتى ترى جميع الشعوب العربية والإسلامية قد نحت همومها ومشكلاتها جانبا واتجهت بكل اهتمامها صوب القدس ومقدساتها.
فالقدس والمقدسات أكبر من ألاعيب السياسة والمفاوضات، بل إنها تتبع للقدس وتدور في فلكها، وكل من يتصل بالقدس ويخدم قضيتها بصدق يكتسب من الشرعية بمقداره، وكل من يدير ظهره لها ولقضيتها العادلة أو يحاول التلاعب بها وبهويتها يخسر ويستنزف من شرعيته ودروه ومصداقيته.
إن محاولة فرض الاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية لن تفلح تحت أي عنوان أو ذريعة، بل ستعود على المعترف بها بالإلغاء والفناء والانتهاء، وستكون علامة حقيقية دالة على الضلوع بالعمالة للمشروع الصهيوني.
إن القدس اليوم بأمس الحاجة لدعم صمودها في وجه المخططات الصهيونية التي باتت تعلن نواياها الخبيثة صراحة، وهذا الدعم يرتقي الى مرتبة الوجوب الشرعي والأخلاقي والعروبي، واجب على الشعوب وهو على الحكومات والأنظمة أوجب، وواجب على الأفراد وهو على المؤسسات الأهلية والشعبية أوجب.
ودعم صمود القدس يكون بتلمس حاجات المقدسيين بالذات في مساعدتهم على ترميم بيوتهم في القدس القديمة التي تمنع سلطات الاحتلال عليهم إعادة إنشائها بالكامل، ونحن نعلم حجم التكلفة الكبيرة لهذه الترميمات التي ينوء بحملها المقدسيين الصامدين المرابطين حول الأقصى.
ودعم صمود القدس يكون أيضا بدعم الفلسطينيين داخل الخط الأخضر (فلسطينيو 48) لكي يحافظوا على هويتهم العربية والإسلامية لاسيما أنهم يقومون بدور بطولي بالمرابطة في المسجد الأقصى كلما شعروا بخطر مباشر يتهدده، مستنيرين نحن وإياهم بقوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، فقال: «ائتوه فصلوا فيه فإن لم تأتوه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله».