الإنسان هو محور هذا الوجود، وقد كرّمه ربه وخالقه منذ اللحظة الأولى لوجوده ثم أهبطه إلى الأرض لتكون المستعمرة الإنسانية المؤهلة لأن يستفيد الإنسان من كل ما فيها.
وانطلاقا من هذا المفهوم العريض بدأ الإنسان رحلته على وجه هذه الأرض يكتشف ويخترع ويصنع ويبدع، يتلمس كل شيء من حوله بحس المنتفع والمستفيد، وكل معلومة يعرفها أي من الأجيال يضيفها على ما قبله حتى قفز هذا الجيل من البشرية من على هذا الركام من العلم والمعرفة إلى قمة عالية لم يسبقه إليه أحد على الإطلاق. الشيء المذهل أن الإنسان بدأ يبدع في كل المجالات ليس الضرورية منها فحسب بل والتحسينية الكمالية التي أدخلت الإنسان في حالة من الرفاهية غير مسبوقه.
إن الإبداع الإنساني في مجال الضروريات التي تحافظ على حياته واستمراها شيء مقبول مهما بلغ، مثل التكنولوجيا الطبية والعمرانية والزراعية.
لكن ما يميز هذا الجيل من البشرية أمران هما: أولهما تكنولوجيا المواصلات وثانيهما الاتصالات، ولعل الثانية هي الأخطر. ففي مجال الطفرة في المواصلات التي جعلت العالم من شرقه إلى غربه قرية صغيرة، ينتقل الفرد فيه وكأنه خرج من حارة بيته الريفي إلى الحارة المجاورة، حتى بات المسافر بإمكانه أن يراهن الا تغيب عليه الشمس لمدة 24 ساعة وهو يسابق أفق الغروب.
فأسرع طائرة نقل ركاب بالعالم هي طائرة «الكونكورد» بسرعة 2179 كلم بالساعة بما يفوق سرعة الصوت مرتين، في حين أن أسرع قطار يعمل اليوم على وجه الأرض تبلغ سرعته 350 كلم في الساعة.
وبتنا نسمع بإمكانية تنظيم رحلات سياحية خارج نطاق كوكبنا إلى القمر أو كواكب مجاورة.
لكني أعود وأقول إن هذا شيء مذهل، لكن الأبلغ منه ثورة الاتصالات التي يتواصل من خلالها البشر مع بعضهم البعض على اختلاف لغاتهم ومواقعهم وألوانهم وأديانهم. فانطلقت المحطات الفضائية وبلغات العالم المختلفة.
وكذلك شبكة الإنترنت العنكبوتية التي أوقعت الإنسان كفريسة في خيوطها، فلم يجد بدا من الاستسلام لهذا الشرك المحكم.
والأدهى من ذلك والأمر أنها لم تمهل الإنسان لحين الانتهاء من عمله والفراغ من مشاغله لتعود وتنقض عليه فقط، بل قفزت من ركن بيته ومن على سطح مكتبه وهاجمته وحلت بين ثنايا لباسه وسكنت في جيوبه، فكانت الهواتف الذكية بأنواعها وأحجامها المختلفة، نعم إنها ذكية جدا وأذكى ممن يحملها في كثير من الأحيان، لقد تحولت إلى مخلوق غريب لكنه مقبول ومرحب به، هذا المخلوق يفترس الإنسان ويصيبه في مقتل ويرديه إما صريعا أو معزولا عن محيطه من بني جنسه، لأنه وجد في هذا الخبيث البديل عن التواصل مع الآخرين مباشرة، ولقد بات الكثير من الناس تصيبه حالة من التوحد التكنولوجي وهو يستخدم هاتفه النقال وكأنه يتحدث مع نفسه.
هذا الكلام كله في حال الاستخدام الآمن والصحيح لهذه التقنية التي جاءت بالأصل لتسعد الإنسان. وأما الاستخدام الخاطئ المضر فانه يحمل في ثناياه الخطر الحقيقي الذي يتهدد الأجيال الحاضرة والقادمة. ومنه ما إذا علمنا أن عدد المواقع الإباحية على الشبكة العنكبوتية يبلغ أكثر من 4.2 ملايين موقع، أي ما يقارب 12% من مجموع المواقع الإلكترونية، وهي نسبة عالية وخطيرة جدا.
لعل أكبر الخاسرين في هذه المعركة التكنولوجية التي نعيش فيها هي خصوصية الإنسان واستقلاله الذاتي، وصفاء روحه ونفسه، وقدرته على الخلو مع نفسه ومراجعتها ومحاسبتها، علاوة على أنها تستحوذ وتستهلك أغلى الأوقات التي من المفترض أن تقضى مع الأهل والأبناء.
لقد أعجبني ذلك الرجل الذي يتعامل مع كل هذه التقنية بحذر شديد، فعلى الرغم من وجود هاتفه معه إلا أنه لا يقوم بتشغيله إلا في فترات محددة في يومه يستقبل فيها اتصالاته في تلك الفترة، ويسير فيها مصالحه فخصوصيته محفوظة، وتعاملاته مع من حوله مكفولة.
السؤال الموجه لنا: ألهذه الدرجة كنا نعيش في هذا الفراغ حتى تأتي الاتصالات وتملأها بهذا الشكل الرهيب؟
وهل نستطيع أن ننجو بأنفسنا من هذا الوحش المفترس المحبوب؟
[email protected]