من أكثر الأشياء التي يعجز القلم عن الكتابة فيها تنظيم «داعش»، رغم إلحاح الحدث لاستنطاق الكتابة فيه، والسبب في ذلك وجود الكثير من الزوايا الخفية على الباحث والمتابع لتسلسل الأحداث ولهذا التنظيم، ولأن الكتابة الصحافية تستدعي الموضوعية والدقة فيما تتناوله، فلا يجد الكاتب بدا من اللوذ بالصمت أو التوقف حتى تستبين الأمور.
وحديثي هنا ليس عن داعش كتنظيم برز كلاعب أساسي على مسرح المنطقة وبقوة فقط، ولكن عن هذا التحالف الدولي الذي التأم شمله لمحاربة هذا التنظيم المسلح أيضا.
ما يجب قوله ابتداء إن الوضع في منطقتنا العربية اليوم بات الأكثر تعقيدا وتشابكا، يصل بنا إلى حد الحيرة الحقيقية أحيانا أو إلى مراجعة الكثير من الفرضيات والتحليلات السابقة، والرجوع عنها أحيانا كثيرة.
نحن نعيش حالة من التقلبات المتسارعة ترهق المراقب والمتابع فضلا عن عامة الناس، مما يستدعي العقل المنفتح القادر على تحليل الأمور بطريقة بعيدة عن التأثير العاطفي والانفعالي.
ليس جديدا على تنظيم داعش أن يعلن نفسه كدولة إسلامية، لأنهم أصلا يسمون أنفسهم مسبقا «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وهذا المصطلح العريض مختصره كلمة «داعش».
إذن ما الجديد في الموضوع؟ الجديد هو التمدد المفاجئ لهذا التنظيم على مساحة واسعة في العراق وسورية معا، فأزال الحدود وأعلن دولته، ونصب خليفته.
وهنا تثور التساؤلات العديدة، أين كانت كل هذه القوة الكامنة؟ وما الذي كان يكبح جماحها؟ ومن أين أتت كل هذه القدرات العسكرية والقوة التدريبية العالية التي مكنت لهذا التنظيم من هزيمة الجيش العراقي بهذه السهولة؟
كل هذه الأسئلة برسم الإجابة عنها..
الملاحظ أن داعش تمددت في مواطن اللادولة كما هو الحال في المناطق السورية، أو في المواطن ذات الدولة الضعيفة كما في المناطق العراقية، مما جعلها تسيطر على مساحات واسعة ويدخل تحت حكمها - كرها أو طوعا - الملايين من الناس، وبات يسيطر على حقول النفط العراقي منه والسوري، ووقعت تحت يديه الأموال الطائلة، مما جعل لهذا التنظيم ودولته أسبابا واقعية لما يمكن أن يطلق عليه اسم «الدولة» لكن ينقصها ركن الاعتراف الدولي كما هو معلوم في القانون الدستوري، وهذا لم ولن يحصل، بل حصل العكس منه تماما.
إذا قلنا عن داعش انه تنظيم إرهابي تكفيري، وهو نموذج سيئ جدا عن الإسلام وهو يشوه حقائقه وأحكامه، فإن كل هذه الأوصاف وغيرها لن تغير من الواقع شيئا، وهو أن داعش أصبحت دولة بينية تقع بين العراق وتركيا وسورية.
والواقعية السياسية تحتم التعامل مع هذا الواقع الجديد وإن لم يعجبنا أو كنا غير راضين عنه.
لذلك، ومن باب التعامل مع هذا الواقع بدأت الولايات المتحدة بجمع هذا التحالف الذي نشهده اليوم لمواجهة ذلك التنظيم ودولته.
لكنني أود الإشارة هنا إلى أن الباعث القوي الذي دفع الولايات المتحدة والدول الغربية الى تشكيل هذا التحالف ليس الخوف على منطقتنا العربية وعلى شعوبها، وإنما وجود الكثير من عناصر داعش من رعايا الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، ومنهم على سبيل المثال، قاطع الرؤوس ذو اللكنة البريطانية والذي تم تحديد شخصيته بأنه كان يعمل مغنيا للراب قبل الالتحاق بتنظيم داعش.
هذه العناصر كانت مصدر الخوف والرعب الغربي الذي يعتقد أن عودة هؤلاء إلى موطنهم الأصلي - ولو بعد حين - ستكون كارثة حقيقية تعصف بالمجتمعات الغربية، وستكون بمنزلة خلايا ليست نائمة، بل يقظة ونشطة قادرة على تعكير صفو الأمن القومي الأميركي والغربي.
هذا ما اقض مضاجع الإدارة الأميركية وحلفائها.
وإلا فإن العراق ومنذ دخول القوات الأميركية إليه عام 2003م وهو يعاني عدم الاستقرار قبل وبعد الانسحاب الأميركي منه.
وفي سورية، حدث ولا حرج، نظام يقتل شعبه بكل وحشية ويصب النار على رؤوس الآمنين قبل المقاتلين ضده، ويرتكب الجرائم البشعة بما يفوق الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب.
هذا كله تحت سمع وبصر «العالم الحر» الذي لم يحرك ساكنا تجاه هذا النظام المجرم، ولم يقدم شيئا حقيقيا يستحق الثناء اللهم سوى التصريحات القوية أحيانا من وزراء الخارجية أو الناطقين باسمائهم.
إذن الحرب القادمة ليست حرب شعوب المنطقة وذلك لفقدان الثقة بالنظام العالمي الشرقي والغربي وعلى رأسها الولايات المتحدة، فالمنطقة العربية اليوم تعيش أزمتين: أزمة حروب وأزمة ثقة، مما يضيق خياراتنا ويفقدنا الأمل في المستقبل المنظور، هذا يقلل الدعم للتحالف الدولي ضد داعش ويضعف عوامل نجاحه.
فهذه الحرب بتحالفها المعلن هي حرب الأنظمة العربية وليس شعوبها.
لكن كيف سيكون شكل الحرب المقبلة ضد داعش؟
هذا ما سنستكمله في مقالنا المقبل إن شاء الله.