من المهام الأساسية والرئيسية لرجال الشرطة إجراء التحريات عن البلاغات التي تصل إليهم عن أي جريمة او قضية، والتحريات هي الإجراءات التي يتخذها رجل الشرطة للكشف عن الجريمة ومعرفة مرتكبيها وجمع ما يتعلق بها من معلومات لازمة، ذلك من اجل ان يضعها نصب أعين سلطات التحقيق بهدف توضيح الأمور للسلطة المختصة في التحقيق، وتستند التحريات على ضوء ما يبدو من ظاهر الحال والشواهد والتي يرجح معها وقوع الفعل الإجرامي من الشخص المقدم لهيئة التحقيق، ولكن يثار تساؤل مهم: ما التكييف القانوني لتحريات رجال الشرطة؟ وهل هو من حق رجال الشرطة بحكم عملهم او واجب عليهم بحكم دورهم في حماية امن وسلامة المجتمع؟ والحقيقة ان تحريات الشرطة مزيج من الحق والواجب، بحيث يصعب فصلهما عن بعضهما البعض فهو حق مخول له قانونا باعتباره الشخص الذي أعطاه القانون ومكنه ومنحه قسطا كبيرا من السلطة لإتمامه، وواجب لأنه الرجل الذي أناط به المجتمع حمايته لأنه ان علم بوقوع الجريمة، ولو لم يجر رجل الشرطة تحرياته بشأن اي قضية تقدم اليه ولم يقم بالقبض على مرتكبها فإنه خائن للأمانة التي وضعها المشرع في عنقه، لذلك فإن القول بإجراء التحريات حق خوله القانون لرجل الشرطة ليس صحيحا على إطلاقه إنما الأصح انه خليط بين استعماله لحق إجرائه وأداء لواجبه في الوجه الآخر ـ ونود ان نشير ايضا الى ان القضاء جرى على ان التحريات في مرتبة وسطى بين القرينة والدليل وذلك لأنها تحتمل الصدق والكذب، لذا فإنها تخضع للسلطة التقديرية ـ فإنن استبان لها صحة وجدية التحريات فإنها تعول عليها في تكوين عقيدتها وان استبان لها غير ذلك طرحتها ولم يكن لها اثر في تكوين عقيدتها.
ولكن متى تكون التحريات موجبة المسؤولية المدنية لرجل الشرطة ـ نعلم ان المسؤولية المدنية تقوم على 3 أركان هي: الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما ـ فالخطأ الانحراف عن السلوك العادي والمألوف للرجل المعتاد وما يتعين عليه ان يكون في مسلكه من الحيطة والحذر ـ اما الضرر فهو الأذى الذي يصيب المضرور في ذمته المالية ان كان ماديا او يصيبه في عاطفته وشعوره ان كان ادبيا ـ وعلاقة السببية بينهما وبعبارة أدق «إذ لولا الخطأ ما وقع الضرر».
ومن مطالعة أحكام القضاء الكويتي تتبين الحالات التي تكون فيها التحريات ركن الخطأ الموجب للتعويض في المسؤولية المدنية ومن ضمنها ـ ان تكون التحريات التي أجراها رجل الشرطة قد شابها سوء التقدير وان يستهدف منها منفعة شخصية لنفسه لا يرضاها القانون او ان تتصف تلك التحريات بالرعونة وان يكون القصد منها الإساءة الواضحة للشخص المتحرى عنه، وانه عندما قام بتحريات عن هذا الشخص كان سيئ النية ـ كذلك استخدامه وسائل القهر والتعذيب والقسوة والإكراه المادي والمعنوي مع المشتبه به لإجباره على الاعتراف، وفي هذه الحالة يعد ما فعله رجل الشرطة جريمة جنائية عملا بالمادتين 53 و55 من قانون الجزاء.
فالمادة الأولى وضعت حدا لبعض الموظفين العموميين الذين تسول لهم أنفسهم تعذيب المتهمين لحملهم على الاعتراف، لاسيما ان المتهم قد يعترف كذبا ليتخلص من التعذيب الواقع عليه كذلك حرم المشرع هذا الفعل إلا انه يلزم لتجريم ذلك الفعل وقوع تعذيب عنيف لحمل المتهم على الاعتراف ليتخلص من التعذيب ففي هذه الحالة يحق للمتهم رفع دعواه بالتعويض بعد ان يثبت التعذيب الواقع عليه ويقدم الشهادات الطبية المثبتة لذلك ويرفع دعواه مختصما الجهة التابع لها الموظف العمومي (رجل الشرطة) او كليهما ليتوصل الى الحصول على حكم بالتعويض ـ أما المادة الثانية 55 جزاء، وهذا بخلاف الاجراءات الحاسمة والشديدة في بعض الحالات الواجب على الشرطة اتخاذها خلال جمع الأدلة واستكمال التحقيقات تمهيدا لإحالتها لجهات الاختصاص.
فالمشرع رأى ان معاملة الناس بقسوة معاملة من شأنها الحط من كرامتهم وشرفهم وإحداث آلام ببدنهم جنحة قائمة بذاتها، ورأى ان من يعامل بقسوة من موظف عام او احد رجال الضبط ان يرفع دعواه بالتعويض عليه او على الجهة التابع لها لأخذ مبلغ التعويض منها لقاء القسوة التي تعرض لها بشرط إثبات ذلك بتقرير طبي على نحو يوافق أقواله.
ولي أن أقول كلمة في نهاية هذا الموضوع: فإنني أوصي بزيادة وتأهيل وتعليم الشرطة المتخصصة (قضائيا) لتكون أقدر فنيا وقانونيا على إجراء التحريات والتحقيقات، وذلك في المسائل الجنائية وإحالة الأمر الى النيابة العامة التي تتولى بدورها إحالتها للمحكمة المختصة. كما أناشد ان يتوخى رجل الشرطة الحيطة والحذر عند إجرائه التحريات، وذلك لمساسها بسمعة وشرف أناس قد يدفعون ثمنها حريتهم دون جرم ارتكبوه سوى رعونة وسوء تقدير من مجري تلك التحريات.