لاشك أن الموظف المرتشي يعتدي على أعمال وظيفته التي ينبغي أن تؤدى بالتطلع فقط لمقتضيات الصالح العام ويعتدي على السير الطبيعي للإدارة وما ينبغي لها من نزاهة وهيبة لا تتنزل إلى الكسب بغير حق ـ والرشوة في الأصل نوع من «الاتجار غير المشروع» بأعمال الوظيفة ـ والرشوة وان دبت في أداة الحكم أو تسربت إلى الأعمال العامة كانت الداء الذي يهز كيان الإدارة ويهدد بأسوأ العواقب ومن ثم لا يجزئ في دفع خطرها غير الجزاء الجنائي الرادع ـ وبعض القوانين لا تعاقب الموظف الذي يتلقى من شخص هدية أو عطية بعد أدائه له عملا من أعمال وظيفته إلا أن يكون ذلك تنفيذا لاتفاق بشأن العطية سابق على التنفيذ فيعتبر الفعل عندئذ رشوة عادية وان كانت مؤجلة.
أما إذا لم يكن هناك اتفاق سابق فلا عقاب، لانتفاء معنى الاتجار بالوظيفة أو الخدمة، وهذه القوانين تعد المــكافأة من قبل التعبير للموظف عن العرفان إلا أن قانون الجزاء الكويتي حسنا فعل حينما ادخل في اعتباره أن التعبير بالعطية يسيء إلى الوظيفة ذاتها ومن شأنه إفساد الموظف ـ ولعل ما جعلني أسرد تلك التفاصيل ما قرأته في احدى الصحف أن احد المراقبين بجهة حكومية لم يتوقع يوما أنه سيقع في شر أعماله عندما انكــشف أمام الموظفات بعد أن «كبسن» عليه داخل إحدى الغرف الخالية مع احدى الموظفات وضبط متلبسا معها في وضع شاذ وعندما تمت مواجهته من قبل الموظفات لم يستطع الإنكار وبرر خلوته بأنها مشروع زواج وطلب من الموظفات التستر عليه مقابل صرف أعمال ممتازة لهم ونجح المراقب في ذلك وأغلق أفواه جميع الموظفات لكن موظفة منهن لم ترضخ لتلك الإغراءات ووعدت بتصعيد الموضوع لكنه في النهاية «زاد الحيلة بوعد بعطية اكبر لها وحدها» فسكنت عن فضح أمره، تلك هي الواقعة الذي تدل على امتهان الوظيفة العامة التي بدلا من ان تكون من النزاهة والهيبة أصبحت مرتعا للأعمال الدنيئة والكسب الحرام وأقول أوصل الأمر الى أن تكون مكاتب المــوظفين موعدا للقاءات الغرامية والأفعال غير الأخلاقية؟ أوصل الأمر الى أن تكون الوظيفة محلا للاتجار بها والمزايدة عليها؟ كل تلك الأسئلة أجيب عنها بعبارة واحدة «انعدام الوازع الأخلاقي والمتاجرة بالوظيفة العامة» ـ إلا أنني أود أن القي الضوء عليها من خلال منظار قانوني، فالموظفة التي وافقت على قبول صرف أعمال الممتازة لها من وظيفتها رغم عدم قيامها بها وذلك مقابل تسترها على جريمة رئيسها في العمل «المراقب» يعد في حكم الرشوة فهي جريمة (مكافأة لاحقة) لان تلك المكافأة على أمر غير حق ولم تؤده الموظفة حتى تستحق عليه ما وعدها به «المراقب» وهو الأمر المجرم عنه بالمادة 36 من قانون الجزاء وأفرد لها المشرع عقوبة الحبس مدة لا تجاوز 5 سنوات كما أنها تعاقب بالمادة 35 من قانون الجزاء لقبولها رشوة لامتناعها عن عمل من أعمال وظيفتها وهو التبليغ عن جريمة رئيسها بالجرم المشهود وتسترها عليه مقابل استحقاقها دون وجه حق للأعمال الممتازة وصرف مقابلها ـ وقد أفرد المشرع لتلك الجريمة عقوبة الحبس مدة لا تجاوز 10 سنوات ـ هذا عن الموظفة أما عن رئيسها في العمل (المراقب) فإن الوضع القانوني بالنسبة له مليء بالجرائم فهو متهم بارتكاب فعل فاضح علني والمؤثم بالمادة 198 من قانون الجزاء والتي افرد لها المشرع عقوبة الحبس مدة لا تجاوز سنة فضلا عن عقوبة عرض الرشوة المؤثمة بالمادة 41 من قانون الجزاء (لعرض رشوة على احدى الموظفات وهي صرفه لها مقابل الأعمال الممتازة دون حق مقابل تسترها على جرمه المشهود) وهو ما أوقعه تحت نص تلك المادة والتي افرد لها المشرع عقوبة الحبس التي لا تزيد مدتها على 5 سنوات ـ ولما كانت تلك الجرائم الواقعة من الموظف (المراقب) قد انتظمها سلوكا إجراميا واحدا فإنه توقع عليه العقوبة الأشد والمجرمة بالمادتين 35 و 36 من قانون الجزاء وهي عقوبة الحبس مدة لا تتجاوز الـ 10 سنوات.
وفي النــهاية أقول ان اخـتـيار القادة في المؤسسات الحكــومية يجب أن يـخضع لمعايير كثيرة من ضمنها التحلي بالأخلاق والنزاهة في الوظيفة العامة فيجب أن ننأى عن المحسوبيات التي كانت السبب في تدني القيادات في عملها الوظيفي وانحدار أخلاقها إلى ما نحن بصدده، فالمسؤولية الملقاة على عاتق الموظف العام مــســؤولية جسيمة يجب أن يكون على قدرها وان يكون هدفه مصلحة الدولة والمجتمع بأسره لا الجري وراء نزواته وشهــواته ـ كما أن الموظفين الذين تستروا عليه وقعوا في براثن الإثم والجريمة بقبــولهم رشوة وظيفية منه مقابل تغاضيهم عن الإبلاغ عن مفاسده فاعــتبروه كالفاعل الأصلي في الجريمة ـ الأمر الذي ينذر بتفشي الانحدار الأخلاقي في المؤسسات الحكومية.
[email protected]