عندما كانت الجاهلية تعصف بالمنطقة، قامت حرب ضروس، بين قبيلتي داحس والغبراء، ودامت حسبما وردنا في معلقة زهير بن أبي سلمى، 40 عاما، وكان السبب هو سلب قافلة للحجاج، واليوم وما أشبه اليوم بالأمس تعيش المنطقة حربا أخرى، في زمن ترويض الطبيعة، وغزو الفضاء، واستيطان أعماق البحار، لكنها حرب بعقلية ماضوية، حرب متخلفة في أسبابها ودوافعها، وكأننا نعيش غير بعيد عن زمن الجاهلية الأولى، ويصدق عليها وصف «داعش والغبراء».
ولقد حذرنا في مقالات سابقة عديدة، وأسلنا الكثير من الحبر والمداد عن ضرورة مواجهة التطرف، خصوصا ذلك الذي يتلحف بغطاء ديني وطائفي، حيث يختلط فيه المقدس بالمدنس، وتذوب فيه الروح الفردية وسط الجماعة، ويتسم باستيلاب إرادة الأتباع والمريدين من طرف زعيم التنظيم.
وها نحن اليوم نرى، بازدراء وكذلك بإشفاق، الوضع بالعراق وسورية، من تغلغل التطرف وسيطرته على مدن ومحافظات كبرى لينبئ بانهيار الدولة، وتحطيم أسسها، ويقيم حسبما أوردته وسائل الإعلام وما نشرته المواقع الجهادية لخريطة المتطرفين الذين يسعون لإقامة خلافة إسلامية تمتد في منطقة الهلال الخصيب ككل وكذلك الكويت، وهو تمن أصبح يتحدى ذلك بزحفهم وسيطرتهم السريعة مقابل انهيار تام للجيش العراقي الذي فضل في أغلب المناسبات الهرب بدل المواجهة.
فمن هم داعش وما هي حقيقة التراجيديا الإغريقية التي يعيشها العراق؟ فداعش هو اختصار لجملة الدولة الإسلامية في العراق والشام وهو تنظيم إرهابي ولد من رحم الأزمة العراقية والفراغ السياسي الذي خلفته، بالإضافة إلى الإحساس المتنامي لدى السنة بالتهميش والاضطهاد، خصوصا بعد أن تقلد الشيعة كل المناصب المهمة والحساسة في الدولة بدعم إيراني واضح، وقد تقوى هذا التنظيم أكثر، عقب الأزمة السورية، وهو ما عنوناه في إحدى مقالاتنا «بإرهاب ضد إرهاب»، حيث ساهم بشكل غير مقصود النظام الدولي في إبراز داعش عن طريق التهميش الذي طال التعاطي مع الأزمة بسورية، فحصل على الدعم اللازم باندماجه مرة مع المعارضة، ومرة بالغنائم التي غنمها من جيوش الدولة، كما تحصل على العديد من الأتباع والمجاهدين من مختلف بقاع العالم، فكون بذلك أساسا قويا ساهم في سيطرته اليوم على مساحة تمتد من محافظة نينوى وقسم من الأنبار غرب العراق، إلى ريف حلب الشمالي قرب الحدود السورية ـ التركية، ومن الريف الشمالي لدير الزور إلى جنوب الحسكة، وكامل الريف الغربي، وصولا إلى محافظة الرقة قاعدة التنظيم الأساسية، بالإضافة إلى اكتسابه العديد من الأتباع خصوصا بعد تدخل حزب الله في اللعبة السورية، مما ولد قناعة بأنها حرب طائفية يشنها الشيعة ضد السنة.
كما تجدر الإشارة إلى أن هناك تحالفا غير معلن بين داعش وثوار العشائر ومريدي الطريقة النقشبندية الصوفية وبقايا ضباط وقياديي وأتباع حزب البعث المنحل، وتنظيمات سلفية أخرى مناوئة للحكومة، قد تختلف تلك التنظيمات في الفروع لكنها تتفق في الهدف وهو القضاء على الحكومة الحالية وإعادة ترتيب بيت الحكم أو تأسيس دولة أخرى لا تختلف كثيرا في تنظيمها ومسمياتها عن الدولة الأموية أو العباسية.
ولعل ما يؤكد هذا التوجه هو التدفق الكبير للمسلحين الذين سيطروا على الموصل بطريقة دراماتيكية سريعة، وزحفوا باتجاه بغداد، وباتوا على بعد 100 كلم منها.
وهذا التنظيم المنشق عن القاعدة، تطرح إستراتيجيته القتالية العديد من التساؤلات، فهو لا يعتمد على الجهاد بالمفهوم التقليدي، بل لديه خطط قوية مما يفسر سعيه القوي لبناء دولة ذات موارد اقتصادية، بفرض سيطرته على منابع النفط والغاز في دير الزور والموصل، وكذلك موارد الماء العذب في محافظتي الرقة ودير الزور، فهل يمكن لتنظيم إرهابي بهذا التفكير الرجعي أن تكون له خطط بهذا التكتيك والقوة، أم أن هناك شيئا آخر لم يتضح بعد، مع العلم أنه كانت هناك إستراتيجيات مشابهة سابقا، منها قيام القاعدة في أفغانستان في إطار الصراع السوفييتي والأميركي، فهل يمكن القضاء على تنظيم داعش في ظل استمرار التخبط الإقليمي والدولي تجاه مستقبل المنطقة؟
هذا هو السؤال ـ الإشكال، وفي ظل الوضع الحالي مازالت داعش تخطو وفق مسارها متقدمة، ومنذرة بإحياء ذكرى القوافل والسبي.
ونظرا لتنبئنا بخطورة الوضع منذ فترة جد طويلة، فقد دعونا إلى تأسيس ائتلاف مدني قوي يدعم مؤسسات الدولة، ويعزز الشفافية والمساءلة، ويحارب الفساد بكل طرقه وتجلياته، خصوصا السياسي منه، ويقضي على الإرهاب كفكر مريض لا يحتاج إلى علاج، بل إلى استئصال.
www.riyad_center.com