- الإيمان بعرق واحد وأمة واحدة يعني أن نرجع إلى الخلف ولا نتقدم
- الزعيم جمال عبدالناصر كان أول من استخدم كلمة «رجعي»
- نعت «المتخلف» ليس شتيمة!
- ليـس بالضـرورة أن يكـون حامل الفكر الديني متديناً.. فالمتدين لا يحمل فكراً دينياً!
سار في عقيدة الناس العرب في عهودهم الاخيرة، أن صفتي «متخلف» أو «رجعي»، هما صفتان مذمومتان، وربما تندرجان ضمن ألفاظ الشتيمة والسب والقذف والتحقير، أو الاستهزاء والتحقير!
ولا أدري كيف جرت الامور في هذا المجرى، وتسرب الى الناس هذا التوهم الكبير؟ وصاروا يتقاذفون تينك الكلمتين، كراجمات بينهم، يرمون بها بعضهم البعض، ويرومون ايقاع الهزيمة بخصومهم، بإحدى الكلمتين أو بكلتيهما؟
أما واقع الامر فهو غير ذلك تماما، فكلمة «متخلف» ومثلها «رجعي» بعيدتان تمام البعد عن كونهما شتيمة أو اهانة، وهما كلمتان أو صفتان تعبران عن حالة قائمة لفرد ما في حالة ما، وقد لا تكونان صفتين ملازمتين أو أبديتين وثابتتين فيه، ويمكننا القول انهما صفتان متنحيتان، ومن هو متخلف في هذا الامر قد لا يكون متخلفا في أمر آخر وهكذا!
وأغلبنا، وبالذات كبار السن منا، متخلفون عن أولادهم أو حتى أحفادهم، في أمور التكنولوجيا، ووسائل الاتصالات الحديثة والكمبيوتر وعالم الانترنت الواسع، والذي لم نؤت منه نحن الكبار الا قليلا! بينما يتعامل فيه الاولاد والاحفاد بدربة وحرفية تبلغ حدود الكمال، ولا أظن أن أحدا منا قد حسد ابنه أو حفيده على تلك المهارات الفائقة في هذا العالم السحري!
نحن في حالتنا تلك متخلفون ورجعيون عن علوم العصر ومعطياته وأساليبه، ولسنا نرى في ذلك اهانة لنا، بقدر ما أن الكلمتين أو الصفتين تعبران عن حالة واقعية نحن مضرورون منها لا من وصفنا بها!
حتى يتصالح الزعيمان
لعل أول ظهور وتداول لكلمة «رجعي» باعتبارها نقيصة أو شتيمة، يعود الى سنوات الخمسينات من القرن العشرين، ومن خلال إعلام الرئيس المصري الراحل «جمال عبدالناصر»، ثاني رؤساء الجمهورية المصرية، بعد اللواء «محمد نجيب» الذي أسقط الملك المصري «فاروق»، في انقلاب 23 يوليو 1952، وكان من المعروف عن عبدالناصر كثرة خلافاته مع الدول العربية وحكامها، وخصوصا المستقلين بسياساتهم عنه والذين لا يوافقونه على أسلوبه في ادارة القضايا الكبرى وبالاخص تلك التي لها بعد عربي واسع، أو حتى في علاقاته بالدول العظمى، فما ان يختلف «عبدالناصر» مع أحد الزعماء العرب حتى يصفه بالرجعي، وبالتبعية المعتادة في الانظمة الديكتاتورية، فان إعلامه يلتقط الكلمة ويلوكها، الى أن يتصالح الزعيمان وتعود المياه الى مجاريها، ليتحول ذلك «الرجعي» الى «الزعيم العربي الكبير.. و.. و.».
ماذا تعني الرجعية؟
في ذلك الوقت أعني خمسينات القرن العشرين، كانت معظم البلاد العربية تحت الاستعمار، بصورة أو أخرى، حتى مصر وهي تحت حكم «عبدالناصر»، كان فيها بقايا من الجيش الانجليزي والذي هدأت العمليات الفدائية ضده، بعد «الثورة» أو انقلاب 1952، بينما كانت قبل ذلك وفي ظل الحكم الملكي مستعرة ومستمرة ولا تكاد تهدأ، وربما كان ذلك بسبب موقف الملك فاروق الكاره للانجليز.
والغريب أن عبدالناصر يحمل فكرا قوميا، والفكر القومي فكر «رجعي» بالضرورة، وهو فكر سلفي، يستمد فلسفته من الماضي، ومن فكرة الامة الواحدة والقومية الواحدة والعرق الواحد، ولابد لهذه الامة أن تنضوي تحت لواء واحد وهدف واحد وسياسة واحدة وصفة «رجعي» كما نرى هنا ليست سلبية، بل هي رجعية، لارتباطها بالماضي وبالتاريخ، والتاريخ والماضي هما في الخلف وليسا في الامام، اننا «نرجع» اليهما، لا نتقدم اليهما!
هذا باختصار معنى «الرجعية»، وهي تنطبق على عبدالناصر تمام الانطباق بحكم ما يحمله رجعي يتمثل في اعتناقه المبدأ القومي أولا وبارتباطه بـ «الاخوان المسلمون» ـ ثانيا ـ وهو التنظيم السياسي الوحيد الذي سمح له بالاستمرار في مزاولة أنشطته حتى عام 1954 ليوقف بعد ذلك ويودع قادته السجون، اثر المحاولة الفاشلة لاغتيال «عبدالناصر» في ميدان المنشية في الاسكندرية، والتي اتهم «الاخوان المسلمون» بتدبيرها.
الرجعي الحقيقي
ومصدر الغرابة ـ هنا ـ أن عبدالناصر يتهم من لا يحمل الفكر القومي، أو حتى من يشك في فكره القومي، يتهمه بالرجعية، بينما هو الرجعي الحقيقي، وعليه أن يفاخر برجعيته لا أن يجعل منها سبة يلصقها بخصومه، أو ذوي النزعة الاستقلالية من الحكام العرب ذوي الفكر الليبرالي المستنيـــــــر والمتصالحين مع العصر، والمؤمنين بالثقافة الحديثة، وهم في كل الأحوال ليسوا ضد التقارب العربي والتعاون في مختلف القطاعات التي تنهض بشعوبهم، ولكن ليس على طريقة عبدالناصر التي تنقصها الحصافة والموضوعية ويغلب عليها الارتباك والعشوائية وغياب الوعي السياسي العائد الى قلة تجارب عبدالناصر السياسية وحداثة سنه وقلة خبرته! وللتدليل على خروج صفة «الرجعية» عن معناها الحقيقي، فإننا نحاول أن نتعرف أولئك الزعماء والسياسيين الذين يصفهم عبدالناصر بالرجعيين، لنجد أنهم، حكام العراق آنذاك، الملك فيصل وخاله الأمير عبدالإله ورئيس الوزراء، نوري السعيد، وهم ينتمون الى بيوت سياسية عريقة وعلى درجة عالية من التعليم وكذلك الملك حسين ملك الأردن وهو سياسي محنك ومن بيت حاكم. ومن الرجعيين في نظر عبدالناصر أيضا، الرئيس اللبناني الماروني «كميل شمعون»!
ولو تفحصنا أفكار هؤلاء الساسة وقارناها بأفكار عبد الناصر فسوف نكتشف، من هو الرجعي الحقيقي!
رجعية الأمس ورجعية اليوم
ومن رجعية الأمس الى رجعية اليوم ومن الـ «هناك» إلى
الـ «هنا» لنكتشف العجب العجاب، وما يشيب له «ابن الغراب»!
يشيب «ابن الغراب»، لهول ما يجري في بلادنا من أمور الرجعية و«الرجعيين» و«المتخلفين» الذين إذا ما قلت لهم «رجعيون» ومتخلفون ظنوا أنك سعرت تحتهم نارا ورميتهم بحممها، وهم الذين أشعلوا في صدورنا ودورنا نيرانا لا تطفئها مياه المحيطات السائلة ولا المتجمدة!
لابد أن يفخر أصحاب الفكر الديني بأنهم رجعيون ومتخلفون، من جهة ما تعنيه كلمتا «تخلف» و«رجعية» وارتباطهما بالماضي، والماضي كما أسلفت قبلا هو زمن انقضى، بغض النظر عن زمن مضيه، دقيقة أو قرنا. وكل ما مضى صار ماضيا، ومن يتطلع إليه فهو بالمعنى اللغوي رجعي أو متخلف!
إذن فإن النعــت بالرجعــي أو المتخلــف، لا ينطــوي علــى إهانة أو إساءة لمن يرمــى بــه، بل إنه لا يعدو كونه وصفا لحالة وواقع!
ومثلما أن الحامل للفكر القومي هو متخلف ورجعي، فإن الحامل للفكر الديني بصبغة سياسية هو أيضا متخلف ورجعي! وليس بالضرورة أن يكون حامل الفكر الديني متدينا، بل إن المتدين لا يحمل فكرا دينيا، وإلا سقط عنه التدين، وسوف أقوم بشرح ذلك.
المتدين هو الإنسان شديد الإيمان والارتباط بربه وخالقه، وهو الإنسان الذي سخر حياته وفق منهج يرضي به خالقه ولا يسعى في حياته للتكسب باسم الدين، سواء كان تكسبا ماديا أو معنويا وبأي صورة كانت، فهو مثلا لا يسعى إلى الإمامة أو الخطابة أو الإفتاء أو أي من أمور الدنيا التي ينشد من ورائها كسبا ماديا أو نفعا معنويا كتحقيق صيت أو سيادة على قومه أو ما إلى ذلك من أمور دنيوية تمجها الفطــــرة السليمة المجبولة على الخير. وبهذا التعريف فإننا نخرج كل المشتغلين بالشأن العام من دائرة المتدينين، فهم قد يكونون مؤمنين بأديانهم أو عقائدهم، ولكنهم غير متدينين، بمعنى أنه ليس ثمة توافق بين معتقدهم العلوي وممارساتهم الحياتية، وأفعالهم تكذب لا معتقدهم بل تكذب إيمانهم بذلك المعتقد، ونتيجة لإحساسهم الداخلي بالنقص وبازدواج الهوية والتناقض الصارخ بين ظاهرهم وباطنهم، فإنهم يبالغون في سلوكياتهم الدينية المتطرفة، وإقحام الدين في كل شأن إنساني، من أجل الدفاع المبطن واللاإرادي عن أنفسهم، وهو سلوك بشري معروف، فالذي يحس بالريبة في نفسه يسعى سعيا يسلك خلاله مسالك غريبة ومشبوهة راميا إلى تبرئة ذاته المتهمة أولا من قبل نفسه، قبل أن يكون متهما من قبل الآخرين وهنا يمكننا الاستعانة بالقول المشهور «يكاد المريب أن يقول خذوني» للتدليل على الحالة!
بيت القصيد
أما بيت القصيد، وزبدة هذا الحكي المكتوب كله، فهو واقعنا المزري في بلادنا هذه، وما سبب رزيئتنا الا أولئك النفر الرجعيون المتخلفون الذين يخلطون الدين بأمور الدنيا والذين تكسبوا وسادوا وبلغوا أوج ما بلغوا من جاه ومال وسلطان، باسم الدين والضرب بسيوفه حتى جعلوا بلادنا على ما هي عليه من بؤس وشقاء ومذلة للإنسان فيها، مذلة تشين البشرية كلها، وتحط من قدرها وتهينها إهانة لم تلحقها قط في أي من أزمانها، فالبشرية كيان واحد وجسد واحد، إن ذل منه العظم تهتك اللحم وتفسخ وتساقط ولكن أنى لأولئك الرجعيين المتخلفين فهم ذلك المعنى الإنساني الراقي وإدراك هذا الإحساس النبيل، وهم الغائصون في ذهب الدنيا والمزركشون بزخارف الحياة، يعبون منها عب النهم الجشع ولا يبشمون؟ إننا واقعون فيما هو أكبر من مأزق، وإننا نعيش ورهاف السيوف على تخوم أعناقنا، فلقد سلط الله علينا من لا يخافه ولا يرحمنا، من تلك الطغمة الرجعية السفيهة! وليت ثم ليت أن رئيس وزرائنا وقد جال على نصف الارض في جولته الاخيرة، ووقع مئات الاتفاقيات عن البيئة والاقتصاد والطيران وغيرها، ليته وقع اتفاقية واحدة لتخليصنا من تلك الرجعية الجاثمة على صدورنا!
[email protected]