-
يوم «عرضت» في عرس الوطن ورأيت بلادي «ملكة العرائس»
-
جرّوا بلادي على الشوك لأن جلدها ليس جلدهم
-
النصر في الحياة هزيمة فالمنتصر والمهزوم وجه واحد
-
أكتب رثاء عمر عشته ولا أرثي عمراً سأموته
-
البيت جنة الدنيا والرحم الأبدي لحياة الإنسان
العام الخامس والستون..
العمر الاول..
عمر تشكلت رحلته من خيبات وهزائم.. انتصارات وغنائم.. انكسارات وانعطافات..
بساتين من ورد وشوك..
أقداح مِرار، وكؤوس شهد..
أيام غر بيض، وأخر عجاف جدباء أرضها، ضنينة سماؤها، ضامرة ضروعها، شحيح زادها، متنمرات قططها، مستأسدات رابضاتها..
> > >
البيت
رحلة بدأت ذات يوم رمضاني «سبتمبري» قبل خمس وستين سنة ذوات أيام وليال، في بيت من بيوت ذلك الزمان الابيض الغض، مازالت الذاكرة تحمل شيئا من تفاصيله.. تفاصيل البيت والزمان..
«البيت جنة الدنيا والرحم الأبدي لحياة الانسان..
رحلة الانسان تبدأ برحم الأم وتستمر في رحم الحياة «البيت»..
الانسان في بيته سلطان.. جائر يعدل، وعادل يجور..
في بيته يرتدي الانسان ذاته...وتلبسه ذاته».
> > >
المدرسة الأولى
فوق تراب ذلك البيت حبوت..
ودببت على أرضه..
وطالعت نجوم السماء من فنائه المفتوح، وعرفت الشمس والقمر، والريح والمطر، والليل والنهار..
> > >
ذلك الطفل الـ «أنا»
ذلك الطفل الـ ـ أنا ـ أنظر إليه اليوم، لا أدري، هل لأعتذر منه، لأنني لم أكن الذي أراده، أم لأتلقى منه الشكر لبلائي الحسن في هذه الرحلة الطويلة؟
ذاك الطفل، كان أنا، أما أنا ـ الآن ـ فلست ذاك الطفل..
هو من عجين طاهر، وأنا من قهر منثور..
أكتب رثاء عمر عشته.. ولا أرثي عمرا سأموته..
أن الأرض الخوانة لا تني تخون..
تصنع خائنين.. وترفعهم فوق الشمس..
> > >
يوم المدمعة
تعلمت الحياة وعرفت الدنيا واخترت نهايتي بلا تشبث بالحياة، إن هي كرهتني أو ملتني..
أطل من علو خمسة وستين عاما على غابرات ذلك العمر، لأحصد ما انزرع فيه من طيب وخبيث..
أما الطيب فهو الذي أتركه إرثا للأرض، وأما الخبيث فأنزع أشواكه وأدسه معي في مهجعي الأبدي الذي أسير إليه حثيثا، حيث النهاية في يوم ذي مدمعة..
لا أريد أن تربدّ سماء ويدمع قمر وتتوارى شمس وتتعرى النجمات وتخلع ضوءها الشفيف..
لا أريد لنهر أن يفيض، ولا لبحر أن يتكسر، ولا الأرض «تبطل» ساعة دورانها، إذا ما جاء يوم المدمعة..
أريد أن أمضي بسلام لم توفره لي هذه الحياة، التي أشعلت في وجهي حروبا ظالمة، هزمت في أجمعها، ولست حزينا لهزائمي تلك، لأنني أرى الحرب، بحد ذاتها، هزيمة حتى للمنتصر فيها، ولكن حزني تكتبه بنادق الحروب، ويصيح به داعي الحرب من صيحته الاولى..
ذلك هو حزني الذي أودّعه مع من وما أودّع..
أرى النصر في الحياة هزيمة، لأن المنتصر والمهزوم هما وجه واحد للحياة، وإن اختلفا في كياناتهما الصغيرة..
إن المنتصر هزم جزءا من الحياة حينما انتصر على خصمه، فهذا الخصم المهزوم سيحمل نعش هزيمته، هزيمة الحياة، أو هزيمة جزء من الحياة..
لذا فإن النصر هزيمة أكبر من هزيمة الهزيمة..
إن المنتصر آثم وجان، والمهزوم...
> > >
مستنقعات الشهوة
قبل خمس سنوات كتبت عن الستين التي أمضيتها في الحياة، وما كنت أدري، هل سأعيش خمسا أخر لأكتب ما أكتب اليوم؟
وها قد مضت خمس، فهل سأعيش خمسا أخر؟
وكيف مضت هذه الخمس الاخيرة؟ وماذا أفدت منها؟ وما الذي أعطيته للحياة خلالها؟
لا شيء... بملء ما فيّ من ضمير أقولها..
لست أتجمل ولا أرتدي أثواب العفاف ولا أمشي في سوق المتعففين ولا في دروب المتواضعين، إذ أقول ما أقول، ولا أطمع في وسام التواضع ونكران الذات والاستشهاد في سبيل الآخرين، أحلّي به صدري العاري..
ليس كل ذلك ما دفعني إلى قولي ذاك، بقدر ما هي مواجهة الذات والتحديق الدقيق في مرآة النفس التي يتجاهل أكثرنا وجودها، أو ضرورة مطالعتها ولو مرورا كريما على صفحتها التي قد لا تسر رائيها فيعدل ويتعدل.. يقدم أم يحجم؟ يعلو فيما هو فيه أم يهبط؟ أساء أم أحسن؟ و... و... و...
إنها عملية تطهير وتنظيف وتنقية لذواتنا المتهالكة في مستنقعات الشهوة وهزيمة الآخر وانتصار الذات التي لا ندري لماذا نريدها أن تنتصر، إلا من قبيل الانانية، وننسى أن انتصار الآخر هو انتصار لنا وانتصار للحياة التي نحن أبناؤها وبناتها.
> > >
نور لا يكذب
لم تكن حياتي صحراء جدباء ولا جنة فيحاء..
سار بي العمر بين ذينك المتناقضين المتضادين..
ولو أخذت هذا العمر أو اتخذت منه مقياسا لحياة بلادي وطبيعة حركتها، فربما تطابق العمران واتفقت الحياتان في الشكل والمرحلة العمرية، ربما هي مصادفة أو أنها استنتاج مني (غير دقيق ولا صحيح).
في طفولتي كانت الكويت طفلة، تعبئ الفضاء براءة وطهرا، وتملأ الارض ثقة وزهدا..
طفلة لها عينان من نور لا يكذب ولا يضل.. وقلب محب واثق لا يَخُون ولا يُخَوّن، متسربلة بعفافها الفطري غير المصطنع.. عفاف حاكته أياديها ونسجته من أديمها وخاطته بحجمها، ولم يكن ذاك العفاف صناعة خارجية مستوردة ولا «شغل برة» ومدت رجليها على قدر حجمه، فلم «يعتها» ثوب عفافها المتسربلة فيه..
تلك الطفلة (الكويت) كانت على تلك الصورة الطفولية الشريفة، حين كنت أنا طفلا مثلها، ربما أن الفرق الوحيد بيني وبينها أو بين طفولتي وطفولتها، هو أن طفولتها استطالت وامتدت زمنا طويلا استمر مئات من سنين الازمنة، بينما طفولتي أخذت مسارها الزمني الطبيعي، وهذا هو الفرق بين أعمار البشر وأعمار البلدان، البشر يموتون وينتهون بينما البلدان عصية على الموت ولا تموت!
في طفولتها كانت الكويت تفرح لضوء شحيح انبعث من سراج عاجز، وهكذا أنا الطفل أفرح مثلها. هي تفرح باللقمة «المغمسة» بشرف الكد وبعرق المالحين..
تفرح بالقلم والدفتر والمصباح الواهن وبمرهم الطبيب وبالأرض التي ابتدأت مآقيها المخبوءة تحت الارض بذرف دموع الفرح فبرز النفط في الساحة الكويتية يصيح مجلجلا: هل من مبارز؟
> > >
أنشودة القدوم
واقترن بشبابها المتأخر شبابي الطبيعي، فزهت هي بشبابها وزهوت أنا بشبابي وشبابها..
كانت شابة وصبية وفتية عفية، لا تهن ولا تعجز ولا تتصنع الحياء الكاذب..
كانت منفتحة ومتفتحة لا تتوارى وراء سترة النجاة من مقالة السوء، فما كان فيها ما يشينها..
خلعت براقع الازمنة المولية أدبارها صوب جحر الظلام، وارتدت زينة العصر، وجلست على قارعة الطريق تستقبل مواكبه وتنثر في دروبه الورود وترشه بماء الورد وتنشد له أنشودة القدوم..
وجاءت الوفود من سهل ومن جبل ومن وديان ذات زروع وأراض ذات أنهار، تخطب ود هذه الصبية «الوطن» فلم تمنن ولم تستكثر.. استقبلتهم بفرح وفرشت لهم أهداب عينيها طريقا هينا، وجعلت من بيتها سكنا، ومن زادها مطعما، ومن ثوبها كساء..
سقتهم ماء زهرها، وغسلتهم برحيق وردها، وأظلتهم بستائر رحمتها، وأطلقتهم في فضائها الازرق، يحلقون بلا ريب في سقوط، وبسطت كفها مهابط آمنة لمن أضناهم التحليق..
> > >
أحلامي اليابسة
أنا شببت مع شبابها، ووثبت مع وثبتها، وقفزت وحلقت وتمايست وتمايلت وتباهيت..
جعلتها خارطة لعيني، وقلبا يهبني دقات الحياة..
شرعت أنزع سيفي من غمده «أعرض» في عرسها، يستخفني طرب ويطير بي انتشاء، وأنا أراها في جوقة العرس ملكة العرائس..
معها صرت ملكا متعدد الممالك، ففي كل يوم تفتح لي مملكة أبوابها..
حصدت ذهب الممالك، وجئت به زينة لجيدها المذهب..
سخَتْ وسخوتُ... سمقَتْ وسمقتُ... تسامَتْ وتساميتُ..
عرفت منها كبرياء المتعففين وإباء الشامخين وشموخ الطامحين إلى شق الغيم..
بنيت فوق سطحها آمالا أضاءت الشمس، وعلقت في سقفها أحلامي اليابسة..
> > >
ملكة العرائس تفقد عرشها
شاب ذلك الفجر قبل اذانه الاول، واختبأت ملكة العرائس في دثار الشوك، وسحبت السراجات بصيص آمالها الوليدة، وسرت في المدينة همهمات المرجفين..
حبسوا الارض وحفروا الجب العميق، وكبّروا لصلاة الجنازة.. وتوالت النعوش تحملها أكتاف وطيئة واهنة.. وراجت سوق المنايا وتراصت القبور وتطيّب التراب بأجساد زواره..
خطوط الحزن المرسومة على وجه بلادي لا تخطئها عين، ولا الكبر المفاجئ وكمون الشيخوخة والاعتزال والانسحاب من دائرة الضوء..
ومثلها أنا..
شاخت وشخت أنا معها، وكأنما كنا ـ أنا وبلادي ـ في اتفاق قدري على فترات أعمارنا، طفولة.. وشبابا.. وشيخوخة..
> > >
الفشل
وبسيف العرس الذي «عرضت» به في عرسها، لوحت للمرجفين.. سارقي عرشها، محاولا استرداد بهائها وشبابها المخطوف، ولكنهم هزئوا بي، وولوا مدبرين يجرونها على الشوك لأن جلدها ليس جلدهم..
[email protected]