-
محمد مساعد الصالح أشبع الحياة ولم تشبعه
-
في العام 1977 شتم موسى صبري الكويت في «الأخبار» ومع هذا تم السماح لجميع الأعداد بالدخول إلى البلاد
-
من يتهم الإسلاميين بمنع الكتب هو شخص يروي نصف الحقيقة
-
في التاريخ العربي والإسلامي لم يكن هناك رقيب يراقب الناس
-
بسبب الحرية ظهرت الفلسفات والمذاهب والمدارس الفقهية
البكاء السري
مثلي من يتوجع ويتألم، وربما يبكي إن لم يكن جهرا فسرا..
لماذا؟
لأن الداء العضال، مؤلم ومجرح ومضن...
أرى كل ذي مبضع وضع مبضعه وانزوى يأسا بعدما أعلن عجزه عن العلاج والتطبيب!
فشل الأطباء وعجز الأولياء عن معالجة الحالة فداهنوها ودهنوها بالدعوات والأمنيات وبشيء من الدمعات السحيحات الشحيحات، وولوا أدبارهم بعدما خذلهم الكل وتقاطر عليهم المتسلطون بسواطير الكلام ونواطير الظلام.
لست متسوّلاً على قارعات العيون
تلك المقدمة الدامعة تقتضيها الحال التي بلغناها في بلادنا من يأس وظلم وجور وعسف واستعباد واسترقاق، أراها ويراها كل منصف وذي ضمير أنها حال كسيفة مشينة مسيئة مذلة، تسحق الحر وتواريه ثرى العبودية وتلعنه ميتا حيا.
ويا أيها الرفاق القارئون رقعتي هذه، أنا لست متسولا على قارعات العيون، بل إنني عين رائية ولسان ناطق وقلم كتوب وضمير غير كتوم.
أحزن وانجرح وأبكي وأنا أرى بلادي وأهلي وعشيرتي، يوأدون أحياء على أيدي حفنة غاشمة ركيكة القدر والقدرة، لا ترى في الحياة إلا موت الأحياء ودفنهم بعروقهم النابضة، بتشف وضغينة وانسحاقية ودونية.
مأمأة القطيع
أكثرت من ذرف دموع الكلام، فليس لي من فعل سواه في مثل هذه البلاد الظالمة الجائرة التي سحقتنا وتباهت بما فعلت من فعل الأدنياء والوضعاء!
أطل من شاهق السنين على ما نحن فيه اليوم من خضوع وخنوع ومأمأة القطيع السادر إلى سقيا يداوي بها ظمأه القاتل.
حادثة من الزمن الأبيض
في يوم سبت من عام 1977 كنت في زيارة للأستاذ سعدون الجاسم وكيل وزارة الإعلام في ذلك الحين، والذي فاجأني وقبل تبادل السلام والتحية بقوله المتسائل: هل علمت بما كتبه عنك «موسى صبري»؟
قلت باندهاش زائد: لا!
قال اجلس يأتك الخبر.
كنت آنذاك حديث عهد بالصحافة والكتابة فيها، ولم يمض علي حينها سوى أشهر قليلة أتقلب على صفحاتها لا خبرة ولا تجربة ولا نيّة احتراف، بقدر ما كان الأمر يقتصر على حبي للكتابة وتعلقي بها، وذلك كل ما في الأمر.
بينما «موسى صبري» واحد من أساطين الصحافة المصرية والمعتقين فيها، وكان أحد رجال الرئيس السادات وأحد كتاب خطاباته، ورئيس تحرير جريدة الأخبار المصرية وبالطبع كاتبها الأول.
أخرج لي الأستاذ «سعدون» عدد جريدة الأخبار المقصود وكان عدد اليوم السابق «الجمعة» وهو العدد الأسبوعي لها وأهم الأعداد وأكثرها انتشارا.
على صفحتها الأولى افتتاحية بقلم «موسى صبري»، قرأتها فإذا بها كلها مخصصة لسبي وشتمي وتجريحي، وكان للكويت بلادي نصيب من تلك الشتائم والسباب!
ما أردت بلوغه من هذه «السالفة» هو ما سيلي لا ما انطوى منها وما يلي هو التالي وهو ما أخبرني به الاستاذ «سعدون» حيث قال لي إن العدد محجوز في الرقابة وأنه بانتظار الشيخ جابر العلي ليراجعه به، وما إذا كان سيسمح بدخوله الكويت أم لا!
والذي حدث بعد ذلك أنه أفرج عن العدد وسمح بتداوله بأمر من الشيخ جابر العلي رحمه الله. وليت الأمر اقتصر على ذلك بل إن موسى صبري ظل مواصلا حملته على الكويت لأيام متتالية وربما أسابيع، حتى بلغ في تطاوله مقام الأمير الشيخ «جابر الأحمد» رحمه الله، وكانت الأعداد توزع في الكويت وتباع في مكتباتها، ولم تصادر أو يحجب توزيعها!
خوانة أم خزانة؟
لهذا الحديث مناسبة ولم آت به من متحف الأمس لأباهي بذكرياتي وأروجها في سوق اليوم، أو أختبر ذاكرتي إن كانت خوانة أم خزانة !
وله أيضا علاقة بالمقدمة الدامعة المولولة.
مناسبة الحديث هو ما دار في الأيام الأخيرة من كلام عن رفض الرقابة مجموعة من الكتب ومنعها من العرض في معرض الكتاب في الكويت!
وأردت من إيراد قصتي أعلاه المقارنة بين ماضينا الزاهي الباسم وواقعنا الـــــعليل المريض السقيم، وكيف كان وزيـــــر الإعلام بذاته يسمح بدخول صحـــــيفة تسيء إلى الكويت وأميرها ولم يجد غضاضة في ذلك ولم يتخوف من انتشار ما حملته تلك الصحــــــيفة الضالة المضللة بين قرائها في الكويت، مستندا - ربما - على قاعدة مادام المقذوف قد غادر ماسورته فلا فائـــــــدة من محاولة إعادته، ومدفوعا بتمسكه بحرية التعــــــبير حتى وإن كانت تنطوي على شيء من الظلم ولا سند من الحقيقة يســـــندها ولإيمانه بحـــــق الناس في القـــــــراءة والاطلاع والمــــــعرفة، وأيضـــا من باب «اعرف عدوك».
علما بأنه في تلك السنة كان البرلمان معطلا والدستور معلقا، بمعنى أنه لم يكن من رقيب أو حسيب يخشاه الوزير، ولكنه تصرف بحسب ضميره الوطني والسياسي والمهني أيضا!
كائنات زجاجية
فأين نحن من تلك الثقة بالنفس وبالناس وعقولهم؟!
حينذاك لم تكن الحكومة تتعامل معنا وكأننا كائنات زجاجية معرضة للكسر بمجرد ما يميل بها الهوى - لا الهواء - تهوي على الأرض وتتكسر.
حينذاك كانت الحرية أمرا مقدسا وكان الكويتي كريما وحرا وأبيا في نظر حكومته، وكان الدستور محترما حتى وهو معلق، فلم تبطش بنا الحكومة ولم تجرنا جر الخراف الوجلة إلى المجازر أو المقاصل، ولا حتى الى المعتقلات والسجون.
فما الذي غير الأمور ودهورها وأهال عليها التراب الأسود؟!
للحقيقة نصف آخر
يقول السهلون والمتساهلون وأصحاب الآراء المعلبة الجاهزة المصفوفة على أرفف عقولهم: إن التيار الديني هو السبب! وإن الإسلاميين المتسلطون والذين لا يريدون للناس أن يتعلموا ويقرأوا ويتثقفوا وتزيد معارفهم، حتى لا تتاح للــــــناس الـــــسباحة في بحور الحقيقة، فينقلبوا عليهــم بعدما يكشــــــفونهم ويعرونهم من غلالة الــــتدين الكــــاذب التي يتســـترون بها!
في مثل هذا الرأي المعلب الجاهز نصف الحقيقة لا كلها، وهو النصف الأخير من ذلك الرأي، ولكن السؤال هو: من أتاح لهم ذلك ومن سلمهم مقاليد العباد وزودهم بالحراب والسهام والسيوف والخناجر حتى يحزوا بها رؤوس من شاءوا من عباد الله ويفرضوا هيمنتهم عليهم ويتحكموا بـ «الصادر» و«الوارد»، وما الذي يحق للناس قراءته وما لا يحق؟
المتهم الأول والجاني الرئيسي هو الحكومة التي تنازلت عن دورها القيادي ووضعته في أيدي من لا يخاف الله ولا يرحم الناس ولا تهمه سمعة الكويت، بل ويعمل على تدميرها وفق أجندة مستوردة ويطبقها بحذافيرها دونما خطأ أو زلل! أما الجاني الثاني والمتواطئ مع الحكومة، فهم الناس أنفسهم الذين تنازلوا سريعا عن حقوقهم ودون أدنى مقاومة، ولم يتشـــبثوا بحقهم في حياة كريمة لا سلطان عليهم فيها سوى ضمائرهم والحق والعدل والإنصاف والمســاواة والدســـتور المكذوب والمكتوب بماء الرياء والكذب والمباهــاة الكاذبـــة.
العهد الدستوري السعيد
والتاريخ العربي والإسلامي ينبئنا بأنه لم يكن في يوم من أيام دول العرب والإسلام، رقيب يراقب الناس ويتحكم فيما يقرأون وما يكتبون، ولا حكومة ولا فرق عسس ولا جلاوزة يتسلطون على الناس، يحـــــللون ما شاءوا ويحرمون ما لا يروق لهم. بل إن رجال الدين والقضاة والعلماء هم الذين أبدعوا الإنــتاج الأدبـــي (الإباحـي والمكشوف) حـسب تقييم رقباء العهد الدستوري والديمــــوقراطي! بينما هو في حقيقته أدب تثقيفي راق.
وهذا العهد الديموقراطي السعيد لا يسمح لي بأن أكتب ما هو معروف من أسماء أولئك العلماء والقضاة ونوعية مؤلفاتهم وكتاباتهم وما تنطوي عليه من شفافية وانكشاف ومباشرة، مما يصعب على أكبر المتحررين الآن - أو حتى المتحللين - كتابة عشره!
مخاطر الجهل
إن الدول الإسلامية - دول الخلافة - لم تمنع كاتبا أن يكتب ما شاء له شيطانه وما شطح به خياله وما جنح به على تخوم المحرم أو حـــــتى في عمــــق أعماقه!
وفي أجواء الحرية تلك ظهرت الفلسفات والجماعات والمذاهب والمدارس الفقهية الإسلامية والتي تدين دينا مباشرا لأجواء الحرية وسيادة الإنسان على فكره وحريته في اختيار منهجه الفكري في الحياة دون وصاية أو سلطان من أحد حتى وإن كان «خليفة المسلمين!». وتلك العصور التي زهت فيها الحرية وسادت هي التي وطدت أركان الإسلام وأدخلت الناس فيه أفواجا، فمادام المرء حرا فإن إيمانه يكون إيمانا حقـــــــيقيا وليـــــــس بدافع خوف أو تمـــــلق ونفاق أو جهل، ولكن أنى لحكومتـــــــنا أن تفهم دلك أو تعيه هي والرهط الخوارج الذين طووها تحـــــت آباطـــهم؟!
الشكاءة البكاءة
وليس مهما أن تفهم الحكومة أو ترعوي، ولكن المهم أن يأخذ الناس حقوقهم وألا ينتظروا تلك الحكومة الشكاءة البكاءة أن تمنحهم تلك الحقوق، فهي حكومة مناعة للخير وقادة للشر. وقال الأولون إن الحرية تؤخذ ولا تعطى أو تمنح، فمن ينتظر أن تأتيه حريته على طبق حكومي فعليه أن ينتظر حتى يموت عبدا.
صديق الحياة
مد لي - في موتك - يدك..
أصافحك مصافحة الموت والحب والسلام الأخير!
متّ؟
قالوا: متّ!
قلت ما مات «محمد مساعد الصالح»..
هكذا هو قال..
يموت من كان يخاف أن يموت..
يموت المتطيرون المتشائمون الخوافون من الموت! أما هو فما كان متشائما ولا متطيرا ولا خائفا!
استقبل الموت وصافحه وداعبه وعابثه ومازحه، ومنحه بعض رزقه من فائض الكلام..
فكيف يقولون متً! وما أراك إلا ضحكة ـ مازلت ـ في فم الحياة... فانعم حيث أنت، ودع الموت لمن يهابه..
لك الحياة أيها الحي... يا «محمد» يا صديق الحياة...
[email protected]