-
أول موت سارت به قافلة عامنا هذا وليد خالد المرزوق فكانـت «جــروح الفقـد»
-
خالد الشريعان علمني الحياة وينتظره الموت على باب قلبه
-
الموت الثالث كان من نصيب خالي محمد احمد الرشيد
-
معارفنـا الموتـى قلائـد مضيئة فـي جيد زمـن عاشوه
-
مات البغدادي ولم يشق عبـاءة الغيمة السـوداء
كلام للوقت المتبقي
قافلة الموت - عامنا هذا - ثقيلة بأحمالها... سريعة بخطوها..
حملت من أبهاء البشر ما أبكى أعين الحياة.. وفطر قلبها.. ورشرش بدمع سخين سواد لياليها.. وصهد بارد لياليها..
وكل موت هو ثقيل على أهله..
وكل ميت ينزع شلوا من فؤادِ محبٍ.. يرحل به من دنيا الأحياء إلى جب الموت الرهيب..
إن الأموات يخلفون وراءهم أمواتا في هيئة أحياء..
وإن الأحياء ليدسون في قبور موتاهم بعضا من أعمارهم الباقية.
بين حرف وحرف
أول موت سارت به قافلة عامنا هذا.. جلجل في قلبي وركز في عيني رايات سودا.. كان موت «وليد خالد المرزوق» الذي كان رئيس تحرير هذه الجريدة، ورفيق دروب تقاطعت أجسادها.. وتلاقت أرواحها..
وفي موته كتبت «جروح الفقد»..
الحروف إذاك كانت جروحا مكتوبة..
والجروح تلبست - إذاك - حروفا مجروحة..
وبين حرف ميت وحرف حي.. ثمة حروف تنتظر نعوشها..
شحم الأيام ولحم الليالي
لو لونت بالسواد أشهر الموت.. لكانت سوداء كلها..
لم تبيض أو تزهر أو تتحلّ بالورد أو تسر في خمائله...
يبس السواد فوق جسدها..
ونام في أضلاعها وامتص شحم أيامها.. وهرست أضراسه لحم لياليها..
هكذا نحن.. أحياء نتباهى على الأموات بكم قليل من أيام حظينا بها بعدهم.. وبدمع ذرفناه من مآق لا تملك إلا إياه.. وبدعاء قد يضل مبتغاه..
الـ «خالد بذاكرتي»
قافلة الموت تنيخ ركبها كرة أخرى..
لا تبحث عن راكب جديد..
هي تعرفه وتعرف أنه واقف على قارعة الموت بانتظار دقاتها على باب قلبه الذي تقاصرت دقاته..
«خالد نصار الشريعان» هو ذاك المنتظر موته..
ذلك الرجل الذي هش في وجه الحياة عمره كله..
«نسيب».. «صهر» سرت دماؤه في شرايين أبناء أختي من بنين وبنات..
عرفته منذ تلك المصاهرة القديمة التي نيفت على أعوام خمسين بكم من السنين..
إن كان من أحد أزعم أنه علمني فن الحياة فهو هذا الـ «خالد» بذاكرتي دوما..
هو من قلة قليلة من رجال «كويت الزمن الوسيط» ممن فتحوا عيونهم على ما هو خارج محيطهم وخارج ما لا تراه عيونهم..
هو من الذين تجاوزوا حدود بلادهم برا وبحرا وراح عقله قبل عينيه وبقية جسده يشخص إلى البعيد البعيد.. حيث لا أفق يحد المعرفة..
عرف وسائل الاتصالات مبكرا.. وحينما كان ليل الكويت يغط في نوم عميق قبل أن تبزغ في سماه نجمة مبكرة البزوغ..
عرفت من «خالد الشريعان» الراديو والسينما والكاميرا والحياة الحديثة بقدر من التفاصيل..
وكان حاضرا في أول إذاعة أهلية كويتية لاسلكية كانت تعرف في بدء انطلاقتها عام 1947 بإذاعة «شيرين» أو «بهبهاني»، حيث تعود ملكيتها إلى عائلة «بهبهاني» وقد سبق بها الإعلام الأهلي الإعلام الرسمي.
من الحسرة والندم
لن أفيض كثيرا في سالفات الحياة وذكرياتها التي لا نملك إزاءها إلا شيئا من الحسرة.. وكثيرا من الندم لأننا لم نقبض عليها حتى لا يخطفها الزمن.. ويطويها طيا وكأنها ما كانت يوما ذات لحم ودم.. ولسان قال وحكى.. وعين رأت.. وعقل وعى.. ويد فعلت وبنت وأقامت ما تعجز الدهور عن اقتلاعه..
قسوة الذكريات
في يقيني أن الحديث في شؤون الحياة وذكرياتها، أشد ألما.. وأكثر مرارة من حديث الموت..
هو حديث مضن.. وأمض من الداء العياء..
إن الذكريات إعلان عن موت بعض الحياة..
إنها شهادة وفاة مصدقة لزمن كان يتنفس..
هي موت ماض.. قد مضى إلى حتفه غير المرجوع..
نعش الخال
القافلة.. تدق أجراس الموت من جديد..
هذه المرة اقتربت مني أكثر وأكثر..
تمهد نعش خالي الذي هو مني بمنزلة الأب..
هكذا كان «محمد أحمد الرشيد».. الذي وقفت عند بابه تلك القافلة السوداء..
قرعات الموت لا تخطئها أذن واعية.. مثلما لا يفلت منها من ترصدته..
فكان الموت الثالث لقلبي الذي كلّ.. وملّ أخبار الموت تتوالى عليه كلما هم بنسيان أو محاولة تناس..
كلما حاولت مسالمة الحياة وصداقتها وتصديقها.. كشف لي الموت نابا أسود ومخلبا ناشبا يصدقان ولا يكذبان..
مات الخال وأخذ معه عكازة أيامي المقبلة..لأبقى في صحراء لا تني تعد بموت جديد..وسراب خادع..
القرية الغافية
صديق في زاوية من زوايا العمر القديم..
«عيسى عبدالمحسن الرفاعي».. ضاعت من أيدينا أيام كنا نتداولها أو هي تداولتنا.. فشققنا طرقا لا تتيح اللقاء..
خمسينات «حولي» القرية الندية الطيب رملها.. والمعطر ترابها بأقدام الذين ساروا عليه..
تلك القرية الغافية زمنذاك كانت مسرح المعرفة والصداقة بعدد من أهل ذلك الزمن وتلك الأرض، وكان منهم «عيسى الرفاعي» والذي كلمني رغم الزمن البعيد موته المفاجئ..
إننا إذ نحصي معارفنا الموتى فإننا إذ نفعل ذاك فلأننا نؤمن بأنهم قلائد مضيئة في جيد زمن عاشوه وآخر فروا منه إلى ظلام الموت..
نستعيد ما كنا وما كانوا..
وزمنا أفلت من بين أيدينا.. وما أكثر ما فات وما أفلت..
ما أكثر الأزمنة الراحلة.. وما أقل المقبلة..
شجرة الزمن
الأيام أخوات الأيام.. والليالي توائم أخواتها الليالي..
إلا الناس.. فهم أوراق في مهب ريح متعاكسة الاتجاهات..
لا يثبتون على شجرة الزمن..
تنثرهم الريح.. وتلقي بهم في متاهات الحياة ثم تسلمهم للموت.. ولا أسف..
ضجيج الموت يعلو.. وعجاج قافلته يسد الآفاق.. ودقاته تتوالى برتابة قاتلة مملّة دبقة، تكاد تلصق بالآذان وتصمها.. وترج القلب حتى لكأنها تنزعه من مستقره الآمن لتمزقه..
يتم العصافير
«أحمد السقاف».. ينزعه الموت منا..
دوحة الشعر بكت.. وعصافير الأدب تيتمت.. وأوراقه يبست.. ومحابره جفت.. والزمن الأبيض التحف بالسواد.. ودقت الذكريات نواقيسها.. ودوى في القلوب ضجيج الحزن..
«خاطب الصحراء» هكذا أسميته في رثائي له يموت محملا بسنين كثر.. عاش أغلبها يكتب سطورا لعيون غيره وعقولهم..
يخط على ألواح لا تبلى، كلمات قادرة على التصدي لكل صعب..
الأحمدان
تتآخى الأسماء كتآخي الأيام والليالي..
و«الأحمد» بالموت يذكر بـ «الأحمد»..
ومن موت «السقاف» أحمد إلى موت «البغدادي» أحمد..
كلاهما في الحياة «أحمد» وفي الموت «أحمد»..
حصدا سنين عاجزة ورحلا إلى مجهول لا يعجز ولا تعد سنينه..
مات «أحمد البغدادي».. ولم يشق بعد عباءة تلك الغيمة السوداء التي ما فتئ يحاول نحرها..
وبين موت «الأحمدين».. وقبله وبعده.. موت قليل معلومه.. كثير مجهوله..
وهكذا نحن بين أولئك الاموات وتلك الميتات نبحث في أسئلة الموت، كيف.. ولماذا.. ومتى؟
ولا ندري لماذا نسأل ما دامت أسئلتنا بلهاء؟
ولكننا تعودنا الأسئلة البلهاء.. وتعودتنا هي..
نزدريها وتزدرينا ..تلك الأسئلة البلهاء..
نكذب إذ نسأل وتكذب هي بصمتها ..أعني تلك الأسئلة البلهاء..
النهاية الخرساء
لا تحين لحظة النهاية الخرساء إلا وقد أخرست قبل خرسها المتواري همة التوجع..
ما زلنا بإمرة الموت..
محبرتي لا يجف رثاؤها..
أجدني وأنا أزمع إنهاء الكتابة أنجر إلى أمر منها.. فحقيبة الموت حبلى بالأرواح والأجساد..
العين الصغيرة
أعرف اسم «محمد مساعد الصالح» منذ نصف قرن.. ومنذ بدأت افتراش الكلام المكتوب في جرائدنا.. وكانت «الهدف» أول إصابات عيني القارئة وكان اسم «محمد مساعد» أول ما أصابت تلك العين الصغيرة آنذاك..
لا أزعم أني قادر على استرجاع المكتوب في ذلك التاريخ القديم.. ولكني أزعم أني قادر على تغشي روح ذلك الوقت وتلبسها والعيش في أساطيرها.. وعاش ذلك الاسم في ذاكرتي حتى كبرت قليلا وعملت مذيعا في الإذاعة.. فكان أن سعيت إليه من أجل إجراء لقاء مشترك بينه وبين زميله وابن أخته وسابقه إلى الموت المرحوم حمد اليوسف العيسى. ويمر الزمن وتدور سنينه وتتعاقب لياليه وأيامه.. لأصير أحد كتاب جريدته «الوطن» وليرافقني إلى النيابة في أول قضية صحافية تقام ضدي، بصفته محاميا مؤازرا لي لا مكلفا بالدفاع عني !
كان «محمد مساعد» ساخرا عادلا.. ولم يكن مستهزئا..
الرياحين المطحونة
الفن في هذه البلاد كبحرها وكالنيل في مصر وكالأرز في لبنان وكدجلة في أرض العراق.. وكبردى الشام..
وفنانو هذه البلاد هم رياحينها المطحونة..
وطاقة بنفسجها.. وقلائد ياسمينها..
هم صوتها المرفوع..وهم صواري سفنها الماخرات عباب مغاليقها..
ولي وأهل الفن القدامى صلات من معرفة وصداقة وزمالة عمل، أسسها عملي في الإذاعة..
ومنهم الراحل الأخير ممن ضمتهم قافلة الموت الفنان الممثل «غانم الصالح» الذي توترت حبال الزمن معه منذ ما يقارب ربع قرن، بحكم انقطاعي عن العمل الإذاعي الذي كان مسرح تلاقينا حيث هو من نجوم التمثيل الإذاعي المداومين عليه بل والمياومين فيه..
والإذاعة في أعوامها الزاهية كانت ملتقى رحبا لكل أصحاب الفنون.. حتى لتغدو وكأنها مزهرية فواحة الألوان بما تضم من أنواع الإبداع..
وجمعتني و«غانم الصالح» رحلة امتدت لأسابيع وشملت «تونس» و«المغرب» و«القاهرة» وذلك لعرض المسرحية المبهرة «علي جناح التبريزي وتابعه قفة» للمسرحي المبدع الراحل «صقر الرشود» وكانت رفقتي لتلك الفرقة المسرحية من أجل توثيق الرحلة إذاعيا وحصد لقاءات وتسجيلات لشخصيات أدبية وفكرية وفنية من تلك البلدان.
وهذه الرفقة التي تعود إلى عام 1975 زادت معرفتي بغانم الصالح لا كفنان ففنه عليه شهود أحق مني وأصدق بالشهادة.. ولكن كإنسان عذب المعرفة وكمتقن لعمله ومخلص لموهبته الكبيرة التي افتقدها الفن الكويتي بموته..
جمعتنا أيام وليال وسط تلك الجوقة الجميلة من فناني الزمن الأبيض.. أذكر منهم أحمد الصالح وأخاه الفنان المرحوم جاسم وصقر الرشود والراحل الضاحك محمد السريع وإبراهيم الصلال ومحمد المنصور وصوت الكويت وشادي الخليج الذي شاطرنا أياما من تلك الرحلة والفنان الملحن غنام الديكان والراحل جوهر سالم والفنانتين مريم الصالح وسعاد عبدالله ونجم الفن الشعبي نجم العميري وآخرين كثرا جمّلوا الرحلة بفنهم وإخلاصهم للرسالة الكويتية التي حملوها إلى تلك البلاد التي لم تكن وطيدة معرفة بنا في تلك الأعوام وبالذات تونس والمغرب.. وكان أحد رؤوس نجاح تلك الرسالة «غانم الصالح» بدوره المشهود في تلك المسرحية التي ألفها الأديب المصري «الفرد فرج» وكان أحد شهود عروضها القاهرية وبهره عرضها الكويتي الذي أضاف عليه مخرجها الكويتي «صقر الرشود» لوحات غنائية وإيقاعية وراقصة، مزج فيها الفن الشعبي الكويتي بأحداث الرواية التاريخية، فأبدع وأضاف ما يبهر.
ندى الكلمات
قصدت من ذلك المكتوب كله رشرشة كلمات ندية على أرواح الراحلين عن دنيانا وسابقينا إلى دار البقاء، ولم أقصد فتح سجل عزاء.. ولا استعادة موال الحزن وإضافة جديد إلى مراراته.
فسلام عليكم أيها السابقون أينما أنتم.. ودعاء بحسن المنزل.
[email protected]