- عربة خضراوات جوالة انغرزت عجلاتها في وحل الجوع والمطاردة واقتناص الرزق
- مازال الولد يحفظ ما كانت تقصّه أمه عليه من دروس عن الوطن وحب الوطن.. والوطن الذي لا يحب أهله!
- مرحباً بالموت غاسلاً لعار صفعة امرأة ليس لها قلب أمي .. عار سأحمله على خدي عمري كله
- ألست حراً كأصحاب الهامات العالية ؟ إذن.. فإن الموت وحده هو الذي يؤكد حريتي ويجعل هامتي شامخة
نسيت الوردة أريجها فأخذته نسائم الأصائل تسخو به على عذراوات ذوات صباحات ناعسات مكسورات الجفون.. شموسها تحتمي بغيوم خجولة..
الأرض الخضراء تعي أن لها ـ مثل أولئك العذراوات ـ صباحات خجولة مقبلة.. ولكن غيومها أثقل من تلك الغيوم الشفافة الخجولة..
والقباب البيض التي تعتلي رؤوس البيوت وتسطع في العيون بياضا..
كانت على موعد مع المطر..
انحبس المطر ولكن لابد أن تنبجس عنه السماء ذات يوم قد يكون قريبا..
بين الانحباس والانبجاس.. تراكضت الأرض إلى السماء.. والسماء عدت نحو الأرض..
أنين يتوالى من ليال تخشى على ساعاتها السوداء من ساعات غُرٍّ قد تفر من قيودها.. ومن حراسها الذين كلت زنودهم من حمل السلاح خوفا من ليال متوثبة إلى الفرار..
ران الصمت وطال الكمون..
والضجر في القلوب يضجر من الصمت ومن الكمون..
والليالي تعقبها ليال لا تشبهها ولكنها تتعاقب معها في الحلول.. وفي تلوين الوقت بالعتمة وبالخوف أيضا..
العربة
عربة خضراوات جوالة.. انغرزت عجلاتها في وحل الجوع والمطاردة واقتناص الرزق..
توقفت..
جفت أوراقها الخضراء ويبست.. وطارت في الريح تلك الأوراق اليابسة.. فيبس ريق الآكل منها رغيفه الجاف المتكسر حزنا وجوعا وصبرا وقناعة بالقدر الذي ساقه لأن يكون صاحب عربة يبيع عليها عطاء الأرض وبعض جودها من أجل رزق شحيح ضنين.. وليقيم أوده وآواد الذين هم وديعة في رقبته المثقلة بحبال العوز والأنين وانتظار المطر الذي انحبس..
وراح صاحب العربة يحاول فك أسر عربته المحبوسة.. يقيل عثرتها ويرمم بواقيها..
دق الأبواب ثم الأبواب.. ولكن للأبواب آذانا صما لا تسمع الطرق الخجول الخائف.. ولم تكن للـ «حيطان» التي حكى لها شكواه آذان تصغي ولا عيون ترى جروح القهر في قلب صاحب العربة..
لجأ إلى امرأة.. لأن للنساء قلوبا تستشعر الحق وتنصف أهله وتبلسم الجروح في جب القلوب!
ذاكرة أم
هكذا ظن.. النساء خيّرات كلهن.. رفيقات رقيقات حنونات كلهن.. وأن قلوبهن ـ كلهن ـ طاهرة كقلب أمه الجائعة في بيتها.. شاخصة في لوحة من زمن يترجرج بين رجاء ويأس وخيبة وأمل..
ترنو إلى زمن لا تراه ولكن تتذكره..
تتذكر وليدها الذي دسه الزمن في أحشائها فحرك الأمل اليابس..
تتذكر عظامه الطرية وهو يتكون في أحشائها من صلب طاهر ولكنه فقير..
تتذكر حركته المتكورة في أحشائها وكأنه يستعجل الفرار من ذلك البيت اللحمي الضيق إلى حياة أرحب وأوسع..
تراه يتقافز بشقاوة بريئة فوق كتفيها المثقلتين بهم الانتظار..
تراه يعود من مدرسته يُسمعها درسه الأول الذي تعلمه عن الوطن وحب الوطن..
والنشيد الذي تعلمه في المدرسة:
«إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلابد أن يستجيب القدر»..
سألها عن الشعب وعن الحياة وعن القدر..
ما كان يمتحنها.. بل كان يريد أن يعرف..
كان هو سلاحها في مقبل أيامها.. وعصاها التي تتوكأ عليها.. والنور الذي انبثق من داخلها..ليفرش لها الدروب سراجات لا تخبو فتائلها.. ولا تذيبها ظلامات الليالي..
وراحت تقص عليه ما حفظته من دروس عن الوطن وحب الوطن والوطن الذي لا يحب أهله..
والوطن هو الخباء.. هو الخيمة.. هو البيت الذي يؤوي أهله..ويرد عنهم غائلة العواصف إن زمجرت..
وأهل البيت يجب أن يحبوا بيتهم ويرعوه ويراعوه حتى يظل هذا البيت متماسكا قويا حاميا لهم وساترا..
وحدثته عن «أبي القاسم الشابي» الذي أبدع تلك القصيدة المحفوظة في رأسه الصغير.. وراحت تكمل وكأنها تستعيد زمن تلمذتها:
«ولابد لليل أن ينجلي... ولابد للقيد أن ينكسر»
«ومن يتهيب صعود الجبال... يعش أبد الدهر بين الحفر»
وكأنها بذلك تذلل الجبال أمام قدميه وتردم الحفر..
الموت كان امرأة
ولكن الموت كان امرأة..
النار كانت امرأة..
العذاب كان امرأة..
الثورة كانت امرأة..
شرارات الثورات تولد صغيرة.. ويتيمة وربما لقيطة مرمية في فجر أدهم..
وكانت الثورة..
صفعته المرأة التي سعى إليها متوسلا قلبها الرؤوم الحنون الخازن الرفق في إرث أسطوري كاذب وما كان يدري أنه كاذب..
غامت الدنيا في عينيه وتشققت محاجره تذرف حجرا..
كان دمعا..
دوي الصفعة على خده.. كان رعدا.. فإعصارا.. ثم زلزالا..
مادت الأرض تحت قدمي حامل الصفعة..
ولكنه طفق إلى الموت خجلا من هذه الحياة التي لم يعرف كيف يعيشها..
واعتذارا لأمه التي لم يقدر على توفير اللقمة الخضراء لها..
ولمن تعلق في رقبته وتوسل العيش من تلك العربة الناشبة عجلاتها في أرض تمنع العيش وتصفع المعتاشين الباحثين عن أرزاقهم في وطن لم يستجب لأقدارهم..
تذكر «محمد بوعزيزي» درسه المدرسي الأول..
وكان مغاليا في تنفيذ الوصية..
فهو هنا لا «يتهيب صعود الجبال» ولا يريد أن يمضي حياته بين الحفر.. فقال للنار إني طعامك..
خذيني حطبا لاتقادك..
اجعليني عنوانا لقصيدة..
لتلك القصيدة التي حفظتها صغيرا..
لذلك الدرس القديم الذي مازال في ذاكرتي يرعى من أعشابها ولا يشبع..
فأشعل في نفسه نارا صادقة..
نارا هو حطبها..
وكانت ضلوعه زيتها المقدس..
لن أستطيع أن أعيش بذلَّة..
لن أستطيع أن أعيش حياتي أسبح في دمع أمي..
ولا أن أنتظر في ظلال أمل كاذب طال انتظاري له وطال زمن كذبه..
لا أقدر أن أعيش أسمع أنين أمي يشقق جدران بيتنا المصلوب على صارية الصبر..
مرحبا بالنار المخلّصة من عذابات مقيمة..
مرحبا بالنار الآكلة ضلوعي..
مرحبا بالنار التي جعلت للصبر آخرا..
مرحبا بالنار خاتمة الأحزان..
مرحبا بالموت غاسلا لعار صفعة امرأة ليس لها قلب أمي..
امرأة سرقت خدي الأيمن بغتة فسجلت على صفحته عاري الذي لن تغسله مياه نهر «مجردة»..
عار سأحمله على خدي عمري كله..
سأرى أصابع تلك المرأة الصافعة على خدي..مهما اختبأتُ أو أغمضتُ عيني حتى لا أراه..
سأراه في قلبي..
وفي ذاكرتي سوف يحفر له مغارة يعيش فيها ويكبر..
يكبر هو وأصغر أنا..
سيسألني الناس عن عاري..
عن خدي المهان الذي داسته أصابع امرأة..
رسمت عليه إعلان هزيمتي وضعفي وهواني..
ستقول لي أمي باستنكار: كيف تقبل إهانة هذه المرأة القاسي قلبها؟!
ماذا أقول لأمي؟!
هل أكتفي بتنكيس رأسي وطأطأته والذل يجلله والإهانة إعلان مرسوم على هامتي؟! هل لي بعد ذلك هامة:
هامات الأحرار عالية..
فهل هامتي أنا كذلك؟
أم أنها مطأطأة منكسة مكسورة ذليلة؟
ألست حرا كأصحاب الهامات العالية؟!
إذن.. فإن الموت وحده هو الذي يؤكد حريتي..
الموت هو الذي يجعل هامتي حرة عالية شامخة..
لابد من الموت..
الموت الرحيم..
الموت الذي أسترد به حريتي التي أخذتها الحياة مني على يد امرأة لا قلب بين أضلاعها..
من رحم موته.. تولدت ثورة..
وحرية إلى حين..
ذلك الوقت المحفوف بالمخاطر..
|
عبد السلام مقبول |
منذ سبعينات القرن العشرين وبمسافة تبعد أربعين عاما عن يومنا هذا.. عرفت اسم «عبدالسلام مقبول» كاسم أقرؤه في صحافتنا وأرى رسوماته.
ومنذ ذلك الوقت علق اسم «عبدالسلام مقبول» في ذاكرتي.
في ذلك الوقت الكويتي كان الدخول إلى عالم الصحافة أو عالم الإعلام بعمومه بالنسبة لنا مثل تسلق الجبال أو «الراليات» التي تطير معها قلوبنا كلما شاهدنا جزءا من طيشها وجنون أصحابها من سائقي عرباتها المجنونة.
كان الدخول إلى حقل الإعلام أشبه ما يكون بدخول حقل ألغام لا تحمد عواقبه.
كان كموعد مع امرأة مجهولة..لا تدري من أي صنف من النساء هي..وإلى أي فصيل تنتمي..
هيفاء غيداء هي..
أم عجفاء شمطاء..
بقايا أعجاز نخل خاوية..
كان كالسير في جوف الظلام بين جبال «تورا بورا».. فلا تدري أهاوٍ أنت إلى سحيق واديها..أم إنك ستقضي بصاروخ عابر للجبال مفتت صم حجارتها..
في ذلك الوقت المحفوف بمثل تلك المخاطر كان «عبدالسلام» بطلا من أبطال مسرح الصحافة الكويتية بريشة وقلم..
فيما بعد عرفت «عبدالسلام» شخصيا حتى قبل أن نتزامل في جريدتنا «الأنباء» فعرفت دماثته ورقّته وصوته الخفيض تأدبا وحياء وخلقا..وهدوءه الذي لا يفجّره الا على الورق.
«علم الكويت ماينباع»
عادت بي الذاكرة إلى ذلك الزمن وأنا أقرأ كتاب «عبدالسلام مقبول» (قبلة على جبين الأرض) والذي عرفه بأنه (مسرحية قصيرة باللهجات المحلية الدارجة وأشياء أخرى ليست دارجة تماما.. شخابيط في حب الأطفال)..
وابتدأه بمثل هندي معبر يقول «الابتسامة التي تطلقها.. تعود إليك من جديد»..
ويبدو من الكتاب وما احتوى أن «عبدالسلام» مازال طفلا.. يحس أحاسيس الأطفال ويعبر عنها بدقة وشفافية وكأنما كتب هذا الكتاب في طفولته لا في شيخوخته التي يكاد يدركها..
ففي المشهد الأول يصور لنا الطفلة في يوم العيد بإحساس بالغ الصدق يجعل القارئ وكأنه داخل هذا المشهد لا متفرجا عليه من الخارج..
وينهيه بقيم وطنية عالية السمو حين نكتشف أن زعل الطفلة في يوم العيد مرده إلى أنها تريد علم الكويت.. وعلم الكويت «ماينباع»..
صورة فاجأت الأب الذي حاول استرضاء ابنته بشتى الصور وأجزل لها في «العيدية» ولكنها لم ترض..
لأنها تريد علم الكويت و«علم الكويت ما ينباع» حسب ما قالت الطفلة لأبيها الذي فاجأته هذه العبارة الصادرة من ابنته.. فكانت سعادته غامرة وهو يسمع تلك العبارة تخرج من فم ابنته.. لا أريد الإطالة عن ذلك الكتاب المسرحي.. ولكنني اتخذته وسيلة ومناسبة للتعبير عن محبتي وتقديري لصاحبه زميلنا «عبدالسلام مقبول».. الذي عاشر ورق الصحافة طوال هذه المدة فأنجب لنا بدائعه.
[email protected]