- جملتي بصمْت مكتوبـــة كتبتها بماء.. لا يحفظ الحروف
- عفوكم أيها الأمــوات الموت لا يشين صاحبه
- لقد ملّ النهر عرائسه وشبع من عرائس الموت
جملتي
جملتي خجولة..
مرتعشة تخاف..
خائفة ترتعش..
تنام في كوخ طيني مثقب السقف..منخور الجدران..
مقوض الأركان..
تسكن خيمة بلا أوتاد..
حروفها مبعثرة.. كحروف السكارى في بقايا ليلهم..
وكحروف البغايا المطليات وجوههن بوهن الليل المنسحب..
كلقيطة على رصيف بارد..
كنرجسة اغتصبتهـــــا العيون الجائعة..
كامرأة بلا فضيلة..
كعذراء شاب نهداها..
كيوم سقط من حساب التاريخ..
جملتي.. مثل حسناء في سوق العميان..
مثل من يغني للصم..
مثل حكيمة بكماء تسر حكمتها..
مثل سخية في قوم متعففين..
مثل مزنة.. تسكب ماءها على بحر..
جملتي بصمت..مكتوبة..
كتبتها بماء.. لا يحفظ الحروف..
لعيون العمي.. كانت..
ولآذان الصم تكون..
جملتي..
بين «ميم» و«ك»
جمعت شتات العمر عاما بعد عام.. أحاول أن ألبس رداء كل عام من تلك الأعوام.. أتغطى بذكرياته وحوادثه وناسه وأهله..
هل لكل عام من الأعوام أهل وناس؟
بل لكل يوم وساعة ودقيقة أهل وناس وحوادث.. يسرق الزمن بعضها.. وبعضها هو الذي يسرق الزمن..
في هذا الشتات الطويل المتشتت والذي تحاول الذاكرة صيده غافلا أو غافيا..تذكرت وشاهدت وسمعت..
عاد لي ناس ماتوا أو كانوا قد ماتوا ولكنني استحضرتهم لغاية في نفس كاتبها.. في نفسي أنا.. أحييتهم لغرض التزود بزاد الذكريات وكأنني أستمد حياتي من أولئك الأموات الذين لم أستأذنهم بإعادتهم إلى جادة الحياة.. أو إلى جادة الذكريات لأنسج منهم نسخة مــن كلام لا قرار له ولا استقرار..
عفوكم أيها الأموات..
الموت لا يشين صاحبه..
الحياة.. تشين صاحبها المرسوم ببلاهة الانتظار..
السنوات الكثر.. السنوات إن تكسدت في الجسد الواحد تثقله
تجعله رقما في طابور الانتظار.. يستعجل مجيء دوره.. زاحفا يتمناه راكضا.. أو راكضا يتمنى لو زحف..
ليست الذكريات شيئا عالقا في الذاكرة كما نزعم
نحن الذين نسعى إليه لنعلقه فيها..
الذكريات نحن الذين نصنعها..
نحن نشتهيها.. نستحلبها.. نرشف آخر قطراتها بألسنتنا الكاذبة..
هي الذكريات لا تكذب.. نحن الذين نصنع لها لسانا لتكذب.. أو لنكذب نحن بلسانها..
لماذا جرني الحديث إلى هذه المنطقة المعزولة بالموت.. وما كنت قصدت أن أفيء إلى تلك الظلال الصامتة.. ولكن حديث السنين يجر إلى ذلك..
بعض السنين ناطق متفجر غضوب..
وبعض ضحوك متفكه..
وبعض تافه بصمته وبرودة عظامه..
وهي أحوال غير متشابهات.. وأهوال هي متشابهات..
الغضب.. كالضحك.. كالتفاهة.. كلهن نتاج هذه الدنيا.. هذه الحياة..
كلهن إبداع وابتداع من صنع هذا الإنسان المصنوع منهن..
من يفقد ذاكرته كمن يفقد إبهامه في ساعة إمضاء الشهادة..
كلاهما فاقد للأهلية.. ذاك انمسحت ذاكرته وانمحت.. وذاك ضاعت شهادته عند البصامين.. والكذب مفتاح فرجهما..
هذا يكذب وذاك يصدقه..
إنهما الاثنان يتبادلان كذبا متبادلا..كذبا لا يتجاوز آذانهما الأربع..
فهذا يكذب ليؤكد أنه قادر على التذكر.. وصاحبه يكذب ليثبت أن إبهامه مازال حيا مصدقة شهادته..
ومن تصانيف الحياة وتصاريفها..ومن حلوها ومرها.. وأسودها وأبيضها.. وورودها وأشواكها.. يصنع الإنسان كيانه الصغير وذاته المحترسة من الزلل الكثير..
ينسج ثوب حياته من ذلك النسيج المتضاد المتشابك المتخاصم..
لذلك يكون حزينا وفرحا.. ضاحكا ومتبرما..غاضبا وهادئا..
هو حزمة من تلك المتناقضات مجتمعة.. لو نقص منها عنصر تداعت بقية العناصر وتهلهلت..
إن الإنسان في تعريفه الأولي هو مجمع متناقضات متحدة.. سلسلة مترابطة من الانهزامات والانكسارت والانتصارات والفتوحات..
ما من إنسان إلا وأحس بالجوع والشبع..
والعطش والارتواء..
والحزن والفرح..
وكل الشيء وكل نقيضه..
إنها حياة وكفى..
وإنك أيها الانسان.. إنسان وكفى..
وآخر الكلام «م» وأوله «ك».. وكفى.
آكل العشب
يا أيها الفيل..
يا آكل العشب..
وشارب النهر..
وثلاثين من السنين..
أما جاءك نبأ «الثعلب الذي فات»..
في الشهر الذي فات..
عن «ليلى» وذئبها «الزين»..
ذي العينين الحجريتين..
والنابين الناتئين..
والمخلبين المدببين..
كيف غدا فأرا فارا..تطارده القطط الجائعة..
بعد ذاك الهيلمان..
والعز والسلطان..
وقبضة السجان..
كيف صار هو.. وكيف هو كان..
يا أيها الفيل..
ما كان بيت جدك من قلاع الروم..
ولا قصرا من قصور السلاطين..
وما كانت الجواري يرششنه بالياسمين..
ولم يطفن بأبهائه بالبخور.. يعطرن جدرانه المرمرية..
ولم يكنّ يسقين حدائقه بالعسل..
ولا يسكبن ماء الورد في أفواه الساكنين..
يا أيها الفيل..
ما كان بيت جدك سوى خوص منخور..
وكوخ مهجور..
ومن جريد من سعف النخيل..
في العتمة يخشى توارد الذئاب..
وفي النهار يحرسه الذباب..
فكيف..وكيف يا أيها الفيل..
عرفت القصور..
وكيف أدمنت سكنى القصور..
وتمرغت بمرمرها المسحور..
وتدثرت بحريرها..
ولعقت عسلها..
بملاعق من ذهب وفضة..
وشربت ببلور مصقول..
واتكأت على أرائك سلطانية..
وتكللت بالتاج المرصع بالزمرد والمرجان..
وكأنك السلطان ابن السلطان..
يا أيها الفيل..
هل قلدك «المعز» سيفه البتار..
هل دق «ابن العاص» بابك بليل..
يقدم لك صك اعتذار..
ويملكك خيله الناهبات أكباد القفار..
أم ان «المقوقس» وهبك الأرض.. جارية تحت قدميك..
تقبل كل صبح يديك..
وقبل النوم تمسح بدمعها وجنتيك..
يا أيها الفيل..
«أبرهة» سقاك..
وأطعمك وكساك..
لأمر كان يقصده..
لبيت ما كان يعبده..
لبيت يبغي يهدمه..
أما خشيت يا أيها الفيل من «طير أبابيل»..
ترميك بحجارة «من سجيل»..
أما خشيت..
من أفواه الجياع..
ومن أنياب السباع..
تهرس لحمك وتجرش عظمك..
ومن أحزان العرائس..
ومن دموع الصغار..
ومن اللائذات بسواد الليل من فضيحة النهار..
يا أيها الفيل..
دع الأرض تعشب..
والنهر يزف إلى الحياة عرائسه..
لقد بدل النهر عرائسه..
شبع من عرائس الموت..
وصار يبحث عن عرائس يهبهن بدل الموت الحياة..
النهر للحياة يجهز عرائسه..
وللأرض من أجل العشب يمد جداوله..
وما أنت يا أيها الفيل نهرا يمنح العرائس حيواتهن..
ولا أنت نهر يسقي عشب الأرض..
ما انت إلا فيل أصم..
لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض..
يا أيها الفيل..
أما خشيت من الرحمن..
ومن «البيان»..
ينطلق من «الميدان»..
يصدح به الشبان..
يعلن «التحرير» بعد الأذان..
فـ «اظهر» يا سيدي الفيل وبان..
عليك الأمان..
لقد أعجزك الزمان..
لقد شخت أيها الفيل العظيم..
وهنت عظامك..
وضعفت أقدامك..
وما عاد من أمام أمامك..
كلك.. صرت خلفك..
فاعتزل أيها الفيل..
ما عاد ظهرك يحمل.. مزيدا من الأوزار..
ارحم ظهرك..
ودهرك..
ودع الشمس ترتوي من النهر..
تسكب دمعها الحلو على العشب..
دع الأرض تفرح بعشبها..
دعها وودعها خضراء كما كانت..
وكما ستكون..
[email protected]