صالح الشايجي
«الوسطية» في الدين لا تحتاج الى صرف الأموال، بل إن كل ما تحتاج إليه هو حجب الأموال!
ذلك ليس تخريفا، بل هو واقع سأسرده حتى يهتدي من في قلبه ورع وإيمان ومن في رأسه عقل يعقل ويفكر، ومن له ضمير فيصدق ويتعظ.
الكويت وغيرها من الدول والمجتمعات عاشت «الوسطية» في الدين، ومارسها الناس دون قرار حكومي ودون إنفاق ودون اجتهادات، كيف؟
حينما كانت الدولة لا يد لها على «الدين» ولا تتدخل في شؤونه وتفاصيله إلا في حدود الواجب واللزوم، كان الناس «وسطيين» في ممارساتهم الدينية، ملتزمين بأداء الفرائض والشعائر، وكل ونفسه يحدد لها اتجاهاتها ويمارس طقوسه الدينية حسبما استلهم من دينه فكان راضيا عن نفسه وعن أدائه، ولم يبالغ أحد آنذاك في الدين ولم يغلُ، فزاوج بين الدين والدنيا واعطى كلا منهما حقه أو ما يعتقد انه حقه.
كان الناس يبنون مساجدهم بأنفسهم وأئمتهم منهم ومؤذنوهم، وكانت المساجد آنذاك ساحة رحبة للمحبة والتعاطف والإخاء، وكانت دور علم حقيقية يخرج منها المصلون بمعارف جديدة تربطهم بدنياهم ولا تنفرهم من دينهم.
لا أظن أحدا يخالفني في ذلك، واقصد هنا: من كبار السن الذين عاصروا ذلك الوضع، ولا أعني الشبان وصغار السن من جيل «الصحوة» وما تلاها! ولكن ما الذي حدث بعد تدخل الدولة في الدين؟
الدولة التي كانت امكاناتها قاصرة عن رعاية الخدمات العامة، قبل النفط، أصيبت بعده بنوع من الإحساس بالنقص - أو هكذا أحست هي - وأرادت التعويض عن سنوات «التقصير» فبالغت في التدخل وبذخت في الإنفاق غير المرشّد، فرغم سلامة مسعاها في إنشاء المساجد الحديثة، وهذا دور تشكر عليه، فإنها زايدت في إفشاء الخطاب الديني وتركته لمن يتولاه ويكيّفه حسبما يريد ورفعت يدها عن مراقبة الجانحين الذين أخذوا منحى خطابيا لا يتناسب وسياسة الدولة وحركة المجتمع، أو بالأصح هي عجزت عن ان تراقب ذلك الخطاب أو تمنعه، فنما ذلك الخطاب وتحول الى خطاب تعبوي تصادمي جانح، والدولة لا تحرك ساكنا، بل تغذيه من خلال أجهزة إعلامها.
غير ذلك فقد نشأت مؤسسة دينية كبرى، يجوز لنا تسميتها «دولة دينية» وهذا ليس من باب «المجاز» أو التشبيه، بل هي دولة حقيقية، لها مصارفها وجمعياتها ومدارسها وثقافتها وسياستها واتباعها الذي يمثلون شعبها! هذه «الدولة» المنافسة للدولة الأصلية، لم تهز شعرة في مفرق الدولة الأصلية، بل ان الدولة الأصلية تباهت وانتشت وربما طربت بنشوء تلك الدولة المنافسة، والتي لم تنظر لها كذلك! ورويدا رويدا تحولت الدولة «الأصلية» الى فرع من فروع الدولة البديلة، وضعفت أمامها، وصار القرار بيد الدولة البديلة بعدما خرج من يد الدولة الأصلية!
ويأتي مشروع «الوسطية» الحالي، لدعم تلك الدولة البديلة،
لا لمحاربتها كما تظن الدولة الأصلية!