صالح الشايجي
قد تبدو الصورة غائمة شيئا ما، وتنطوي على غموض لدى الذين لم يفكروا بها - أو يولوها - ما تستحقه من جدية التفكير، لذلك رأيت أن أغمس قلمي اليوم في أطرافها محاولا تبيان ما قد غمض وفك رموز ما أشكل على البعض فهمه.
إن التدين بمعناه الدقيق والحرفي، هو الاعتقاد بجوهر الدين دون تفاصيله، وهو ضد الالحاد حرفيا، وعليه فإن المتدين هو انسان يعتقد بوجود الله عكس الملحد ذي الفكر المادي البحت.
في هذا التحديد البسيط وهذا التعريف لمعنى التدين والوقوف عند هذا المعنى، تتحقق رسالات الانبياء فيما حملوه الى البشر من أديانهم، أما تجاوز ذلك المفهوم للدين والتدين فيعني أمرا واحدا وهو تضييع الدين وتحميله ما لا يحتمل وتقسيمه بين طوائف البشر والمجتهدين ما يؤدي الى التناحر والتشيع والفرقة، حيث تكثر التفاسير والاجتهادات وتتعدد المفاهيم فيضيع جوهر الدين.
نسمع في زماننا هذا وفي أزمنة سابقة عما يسمى بـ «الدولة الدينية» ويبالغ أصحاب هذا الفكر ليوحوا للعامة بأن الدين من ضمن مشتملاته ورسالته، اقامة دولة دينية، ويلجأون للتاريخ مستشهدين بأن الدولة الدينية كانت قائمة أيام الرسول والصحابة!
هذا خطل فكري وابتسار وافتئات على الحقيقة، لأن الدولة الدينية لم تقم، ولم تكن قائمة في أي يوم من الايام، لا اليهودية ولا النصرانية ولا الاسلامية، وذلك لسبب وجيه وهو أنه ليس من شأن الدين اقامة دول لما في تلك الدول من تشعبات وتفاصيل تحتاج الى متابعة وتشريع آني يلاحقها، والدين وحي منقطع، وبعد الرسول محمد لا رسول ولا نبي! وهذا ما يبطل مزاعم هؤلاء البعض ممن أخذتهم الحماسة الدينية، الى التفكير بإنشاء «دولة دينية»!
إن الخلفاء حينما تولوا الخلافة، فإنهم لم يتولوا حكما، وذلك لعدم وجود دولة يحكمونها، وكل ما في الأمر أن هناك تجمعات بشرية تحتاج من ينظم أمورها، فكان «الخليفة» هو ذلك المنظم، وما يدعوني للقول بعدم وجود دولة، هو أن الدولة تشكلها مؤسسات ونظم وقوانين يخضع فيها الفرد لواجبات المواطنة وحقوقها، ثم إن هناك هوية للدولة يحملها مواطنها، وذلك ما لم يكن متحققا، فلم يكن في زمن الخلفاء الراشدين قوانين ولا أنظمة ولا حدود للدولة ولا علاقات مع الدول الاخرى - ان كانت ثمة دول قائمة آنذاك - لذلك كانت تسمى «حضارات» لا دولا، فنجد مثلا الحضارة الفارسية، والرومية، والفرعونية، وما الى ذلك، حتى جاءت الحضارة الاسلامية.
إن الرقعة الجغرافية لا تكفي لإنشاء دولة، فضلا عن أن الحدود الجغرافية كانت متحركة بفعل الغزوات والحروب واحتمالات الانتصار والهزيمة! أما اذا احتج أحد من الغلاة وادعى أن الخلفاء الراشدين، كانوا يحكمون بـ «الكتاب والسنّة» فذلك لأنه لم تكن وقتها قوانين وضعية فرضتها تطورات الحياة ومستجداتها، كما أن بعض الخلفاء اضطروا الى تعطيل بعض الحدود والتشريعات بناء على مستجدات
أو ظروف وجدوا أنها غير ملائمة لتطبيق تلك الحدود فيها.
نخرج من كل هذا الى نفي وجود «دولة دينية» أساسا، وعليه فمن غير المقبول دينيا المناداة بـ «الدولة الدينية» أو حتى إخضاع الدولة القائمة الى سلطة الدين! لأن سلطة الدين على البشر فقط لا على الدول!