صالح الشايجي
-
حينما لا تجد ما تكتبه...
-
فاعلم أنك تكتب أجمل ما عندك.
تعالوا نختلف
لا أكتب بماء من ذهب، ولا من رحيق الورد، ولا من عرق الكادحين. أكتب لأجمّل عين القارئ!
هذا زعمي، وذاك مرادي، فقد أبلغ مقصدي وأنال مأربي، أو أني أضل سبيلي، فتتقاذفني السبل وتتوزعني الأرصفة، ويتعثر قلمي بالكلام الباهت الممل السمج ـ وما أكثره هذه الأيام!
الكتابة، هجوم وارتداد، بطولة وانكسار، وشجاعة وجبن!
تجمع الفعل مع ضده في تآخ مرتعد، يخاف الهجوم من الارتداد، وتخشى البطولة من الانكسار، وتحزن الشجاعة على مآلها إلى الجبن ولكن في عالم الكتابة ذلك هو الواقع وتلك هي الخارطة التي تسير فوق خطوطها الحروف وتسكنها الكلمات في كهوف تخشى النور، أو في نور يخشى الانزواء في الكهوف!
واليوم إذ أفرد هذه السانحة البيضاء الاسبوعية، فإنني أحس نفسي كالتلميذ الصغير المقبل على امتحان لكشف قدراته العقلية، ولمعرفة مخازنه المعرفية!
ليس غريبا أن أرتعد، أو أن أكون ذلك التلميذ، وأنا الذي سلخ من عمره الكتابي، ما لم يسلخه كتّاب في هذه الأيام من أعمارهم الحقيقية.
إن أمي لم تلدني كاتبا، ولا كانت النطفة التي خلقت منها حبرا، ولا تسري الكتابة في دمي، ولست أقذف كرتي داخل هدف حتى أنال تصفيق الجماهير، ولا أطمع أن أبني ممالك من عرق الكتابة إن الأمر لا يعدو تسلية ولهوا وإرضاء للذات الـ «مازالت» باحثة عن بر ترسو عليه، بعدما تناهبتها المخاوف من تصارع أمواج الزمن!
لست كغيري أرى أن «الكتابة عمل انقلابي»، ولا أراها هما صناعيا، أو عبئا مصطنعا، يحاول البعض أن يتخذه سبيلا إلى هيبة الحكمة وليرقد تحت جلود الحكماء!
الكتابة نوع من مغازلة الذات، وضرب من ضروب إرضاء النفس التي لا ترضى ولا تتروض إلا حين قذفٍ كتابي مموج ومطرز، تارة بالدمع، وتارة بالكحل.
الكتابة، اصطياد، أو عملية قنص عشوائي، قد تصيب كبدا قالوا إنه للحقيقة، وقد تخيب وتطيش فلا تصيد إلا الهواء وتجرحه، ولأن الهواء لا يبكي، ولأن الفراغ لا دمع له، فإن الكتابة طيش وفعل طائش ـ فقط لا غير.
إن الأنبياء لم يتركوا لأحد من الخلق أرديتهم، كما لم يورثوه حكمتهم، ولا فصاحة حججهم، وكل من يدعي أنه جاء يسير برداء نبي، فهو كاذب وضال ومضلل، فاقذفوه وارجموه، وإن قدرتم فاصلبوه!
قد يشيح البعض بوجهه عن هذه الصفحة، ويكتفي بذلك الفعل السلبي فقط، وقد تغلي الدماء في عروق البعض، فينهال علي بكلام لا يبقي مني ذرة، ولا يذر مني ما تبقى لي من عمر، يريد أن يقصفه على الفور، ويرى أن كل حرف زائد مني بعد الذي قرأه، عمل ضار له ومسيء لذاته ولذته! وقد ينشرح البعض وتضحك عيناه ويرقص قلبه، ويلهث وراء هذا الكلام في مضمار بلا حدود!
لتلك الأبعاض الثلاثة، الحق فيما اتخذوه، وفي كيفية تلقيهم لهذه الكتابة، بين سلب وإيجاب وإعجاب، ولكن لي الحق ايضا في أن أكون واضحا أخرج على الدنيا بزيي الحقيقي الذي لم ابتعه من سوق، ولم ابتدعه مما نسج غيري! نسجته على منوالي أنا، بإمكاناتي الذاتية دون استعارة أو تسول أو رجاء من سلطان يهب قليلا ليأخذ كثيرا!
فيأيها الذين تقرأون، تعالوا نختلف!
إن الاتفاق هو أول الخيانات السرية، وأول الطعنات العلنية، وهو القبر الذي توأد فيه الحقيقة فاختلفوا ولا تتفقوا، حتى تعطوا الحقيقة فرصة للحياة.
-
لا تسمع مَنْ حولك...
-
الأذن تكذب كل حين...
-
اسمع احساسك...
-
قد يصدق أحيانا.
أنظمة الفن العربي
دأب العرب ومثقفوهم ـ على وجه الخصوص ـ على كيل التهم للأنظمة العربية، ناعتين إياها بالديكتاتورية والتسلط والحكم الفردي واستغلال السلطة وإذلال شعوبها، وما إلى ذلك من تلك السلسلة الواهنة من التهم.
قد يكون ما يقوله أولئك المثقفون ينطوي على شيء من الصحة، دون تعميم على الأنظمة كلها، ولكن لأن «المثقفين» يعتاشون على مثل هذا الحكي، وهو السوق الوحيد الذي يقبل عرض بضاعتهم المغشوشة، فهم لا يجدون مناصا من الاستمرار في السير على هذا الطريق الذي لا يسير عليه سواهم، والخالي من إشارات تنظم المرور والحركة فيه.
أما أنا فأرى غير ما تراه تلك الزمرة «المثقفة»، وأرى أن مطربي هذا الزمان هم أشد ظلما وفتكا بالشعوب العربية من حكامهم! فما نسمعه هذا الأيام من أغان وأصوات وكلام ملكوك معكوك مربوك، هو إرهاب بكل المقاييس، أو بالمقاييس كلها ـ كما تقتضي قواعد النحو العربي، ومع سبق الإصرار والتعمد والترصد والتوسد!
مغنون ومغنيات بمجرد ان يسمعهم المرء تنتابه حالة من الهستيريا والهذيان والتلبك المعوي والارتداد الجبري والاحتباس الحراري، حتى يصل إلى «انفلونزا الخنازير» وقد يموت. وإن شفي فهو لن يعود إلى طبيعته، بل سيصاب بعاهة مستديمة، وقد يدخل في حالة التحول الجنسي. وبعدما كان رجلا ينطح ويبطح، فإذا به امرأة منطوحة مبطوحة أما إن كانت السامعة امرأة فقد تتحول إلى رجل بمواصفات أولئك المثقفين العرب الذين تعرفهم من سيمائهم أو من «البعرة التي تدل على البعير»!
-
لم أشعل في حياتي شمعة...
-
لا كرها في النور...
-
ولكن لأنني أحتاج الظلام أحيانا...
-
فكيف ألعن ما أنا بحاجة إليه؟!
حروف على صفحة الساقي
آخر حروف أسطرها على صفحة هذا الساقي و«إليه المشتكى»، حروف خمسة «وداعا»!
وداعا يا ساقي البشر والطير والشجر، والعشاق يتساقون ماءك بكؤوس مذهبة بشوق «لا يعرفه إلا من يكابده».
كم يا «نيل» ذرفتُ فوق صفحتك الملساء ذكريات أنبتت ذكريات؟!
قالوا إنك «أسمراني» فهل أنت كذلك، أم أن لونك بلون عشاقك، تتزيى بلون كل عاشق لك؟!
كم التهمت من «عرائس» زففن إليك، فكنت نعم الزوج الذي يحافظ على بكارة زوجته وطهر روحها وكم كتبت فوق صفحتك من قصائد تقلدت ماءك وتشربت رحيقك!
أزاهير الأرض تنتظر كل مساء قطراتك العِذاب حتى تفوح بالحياة فوق صدور العذراوات، تختبئ بين الضفتين حينا وحينا تفر من ذاك المخبأ الجميل.
يلجأ إليك المحبون والمتصيدون للموت، فتهب كل واحد مبتغاه، تزيد المحب حبا، وتسهل الموت لمن أراده ووجد الخلاص فيك فوثب إلى مائك الرحيم يعلم أنك رفيق بطالب الموت والقاطع علاقته بالأرض وبالبشر منحته الحياة عمره كله، ووهبته الموت في لحظة بلا عذاب!
يا «نيل» أراك وأسمعك وأشمك، فأفرح لرؤياك، وأطرب لسماعك، وأنتشي لشمك ولرائحتك التي خزنت الأساطير كلها فبثتها في صدور طالبي النشوة.
يا نيل «أيها الساقي إليك المشتكى»... قد بكيناك «وإن لم تسمع»، شكوت دهري لك، فأنت حمال الشكاوى!
يا نيل هل تهبني من مائك دمعا أبكي به نفسي!
الخطيئة في أن نحب أنفسنا...
والفضيلة في أن نكرهها.
جارة الماءين
ذات ليلة سطت فيها سلطة الصديق، فكسرت أسلحتي كلها، رحت في جب «محمد الوشيحي» الصديق، ذلك الجب اسمه «مانشيت»، البرنامج التلفزيوني الذي تلألأ دهرا، ثم أطفئت سراجاته كمدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
طلبني «الوشيحي» في تلك الليلة القاهرية مع الصديق الآخر، أحد كبارنا في ملاعب الصحافة، الأستاذ «سليمان الفهد» إلى برنامجه ذاك، وطلب مني مقدمة تطل بها عبارتي على الناس قبل وجهي، فكانت هذه المقدمة:
بين القرطاس والقلم، والماء والماء، أمضي يومي، ويمضي بي يومي.
على صفحات الكتب تبعثرت ذواتي الكثر، فصرت ألتقطها لأجعلها ذاتا واحدة، ذاتي أنا.
تصافح عيناي ماء النيل قبل انبلاج الفجر حينا، وكل حين، أحيانا أخرى.
بين ذلك البحر الكويتي الذي ولدت بجواره، منذ عقود من سنين، وهذا النهر المصري الأسطوري الذي جاورته منذ شيء من عام ـ وربما يطول الجوار ـ بنيت عمارة ذاتي، ورممت ذائقتي التي كاد بحري الأجاج يعطشها، فجئت أسقيها بفرات النيل، عله يبل صاديهَا وينعشها بقطرات تحركها فتتوهج.
فهل توهجت هذه الذات؟ هل توهجت جارة الماءين؟!