صالح الشايجي
دع سيفك لرقبة.. جديرة به.
الساطور
كذبة التاريخ.. كذبة كبرى.
من أراد ان يجرب مواهبه الكذبية، فما عليه إلا أن يطل على المكذوب عليهم من ذلك الباب الذي اسمه التاريخ.
والمؤرخون كذبة شرعيون، نحفظهم في صدورنا ونجعلهم قبلة لنا، نطوف على قبورهم ونوزع عليهم قبلات الرحمة..
شهودنا الميتون يبرئون ساحة هذا، ويأخذون الآخر إلى المقصلة، وما علينا إلا ان نصفق لهم إذا برأوا أو أعدموا..
صادقون ـ هم ـ في الأحوال كلها، لأن عقولنا وثوابتنا ترفض أن تدحض الحقيقة قول المؤرخين.
لا المنجمون، بل المؤرخون هم الذين صدقوا وإن كذبوا.
والتاريخ عبث، والتأريخ موقف، فمن يؤرخ يكتب شهادة ميلاد لمن لم يولد.. يخترع بطلا ويلوذ هو تحت بطولاته، يبلغ به حد السماء، ويعبر به المحيطات، ويسبل عليه ماء الورد، ويطهره بماء منذور.
إننا نقتات تاريخا كتب لنا، لا كي نقرأه وندحض كاذبه، بل لنحفظه ونرفعه فوق رؤوسنا مبجلا مكرما لا باطل يحوم حول حماه، وويل للذين يرون فيه كذبا ويدلون عليه، ترجمهم الأمة ويلعنهم الأئمة، وتفتح لهم أبواب جهنم على مصاريعها.
لذلك كان الكذب سلامة.. يقول الحكيم: «الصمت زين والسكوت سلامة».
أمة الصمت تهذر كثيرا.. تكتب كثيرا.. تسمع كثيرا.. وتفهم قليلا.
نحن أمة يتناسل رجالها وتعقم نساؤها.
الرجل يؤطر ببرواز من ذهب، شواربه أوكار للصقور، وزنداه مرعى للثيران الثائرة على أبقارها، وبيمناه يدني الشمس ليقضمها، وبيسراه يزيح القمر..
نعم.. أليس هو رجلا؟!
أما المرأة فإنها حجارة للقذف، نرمي بها الرجل فيخر صريعا، مثلوما شرفه، مدنسا عرضه.
بعضنا يخاف أن يذكر اسم امرأته، زوجة أو أما أو بنتا أو اختا، أو حتى جارة..
اسمها عار، وذكرها جلاب للخزي، ورؤيتها مثلمة للشرف الرفيع.
شرف لك أن تكون رجلا عربيا، ولكن ما أصعب أن تكون المرأة عربية، أو حتى ناطقة بالضاد ولو بالتهجي، فالجيوش تحاصرها من كل صوب، وتهدر إليها من كل حدب، فلا تجد إلا أن تلوذ بالموت الحي.
طوق فولاذي صنعه المؤرخون وطوقوا به جيد المرأة العربية، قصوا شعرها لأنه عورة، وخاطوا شفتيها حتى لا تنطق، فصوتها عورة، وطمسوا عينيها حتى لا ترى، فنظرها أيضا عورة.. عورة تعلق بحواس المرأة الخمس، وربما حتى السادسة.
من كان على شاكلتي، أو كنت على شاكلته، فاجر عاص، سباب لعان شتام طعان، لأنه لا يمشي حافيا على دروب عبدها المؤرخون «الثقات»، ذوو الضمائر التي تصحو على الدوام ولا تغفل هنيهة أو بعضها.
إن كان لك عقل يتساءل، فأنت ومالك وعرضك حلال لدساسي الخناجر في الخواصر، وللحناجر على المنابر، تنبذك وتعريك، وتدعو الديكة لنقر عينيك، حتى تستسلم استسلاما مذلا، أو تموت ملعونا بنقر الديكة.
يحاصرنا النمل من كل صوب، يتغذى على أجسادنا، وينام في عيوننا، ويتناسل في آذاننا، ويتمشى في راحات كفوفنا..
يحدث كل ذلك، لأننا لم نصدق «حجاج» التاريخ، أو لأننا نشكك في بعض قوله، ولا تستهوينا رواياته، ولا نستطعم مذاق اللحم الآدمي المشوي، ولا نجري وراء نساء صنعن من بلور سريع الانشطار.
فهل لأمة تقتات على التاريخ أن تعيش الواقع أو أن تمضي إلى الأمام؟!
-
عيناك مسقط قلبي..
-
وقلبك مسقط حبي.
لن أقول لدموعك كفي، فأنا أقرأ فيها ما لا أراه منك..
دموعك المتلألئات على وجنتيك، أنا الذي اخترعتها.. أنا الذي ضربت لها موعدا فوق رصيف خديك..
هي صديقتي السرية التي أقابلها علنا..
تبوح لي بما لم أسمع، وتريني ما لا أرى..
تسمعني قصائد منسية..
وتريني جنات غير مرئية..
فيا دموع عينيها... أمطري فوق وجنتيها، فغدا يأتي الربيع إلى خديها، والخريف إلي.
-
لو ألقيت ما بي من أحزان..
-
على الجبال..
-
لفتتتها..
تدوير «الصحّاف»
هل تذكرون «محمد سعيد الصحاف» وزير إعلام صدام حسين أيام الحرب التي ألجأته إلى غار الفئران يقتات عليها وتقتات عليه؟
أين غدا الصحّاف وأين مضى وأين صار وكيف هو الآن؟
هل مازال حيا؟ وهل مازال يكذب، أم أنه قادر على العيش من دون كذب كرتوني، مثل الذي كان يمارسه أيام تلك الحرب الذهبية؟!
وإذا كان «الكذب ملح الرجال» كما في القول المعروف، فإن الصحّاف هو ملح الكذب، ولولاه لما كان للكذب معنى، ولا ملح ولا سكر ولا فلفل أسود او أحمر.
لقد غطى الصحّاف بكذبه على كل سابقيه في هذا المضمار الذي تتبارى فيه خيول الخيال إلى أمد غير محدد..
ورأس هؤلاء الكذابين هو «غوبلز» وزير اعلام هتلر، والذي أطلق مقولة مدوية حتى يومنا هذا، وهي «اكذب واكذب حتى تصدق نفسك»! فهو لم يكتف بان يصدق الآخرون كذبه، بل يريد من خلال كذبه أن يصدق نفسه، وقد صدق في كذبه!
وثاني الكذابين هو «أحمد سعيد» مذيع «صوت العرب» أيام حرب 1967، والذي كان يأتيه الكذب مكتوبا في بيانات رسمية تتحدث عن اسقاط 70 طائرة، ثم مائة، ويزيد العدد حتى تضيق الأرض بعدد الطائرات الاسرائيلية المتساقطة، فيحتويها البحر وتسكنها سمكاته!
ولكن ميزة «الصحاف» أنه نسيج وحده، وكذبه «منو وفيه»، أي أنه ليس بحاجة إلى بيانات رسمية مكتوبة، ولا استعارات ولا سرقات، فهو قادر على ابتداع الكذبة على الفور وتلقائيا، وهو لا شك غزير الانتاج في هذا «الكار»!
وما نذكره من كذباته، هو نفيه دخول القوات الأميركية للأراضي العراقية، بينما العالم كله كان يراها تتمشى على الطرق السريعة المؤدية إلى بغداد، عاصمة الرشيد سابقا، وعاصمة صدام آنذاك، وعاصمة الموت حاليا، حيث ادعى الصحاف حينها أن ما ترونه على الشاشات هو أفلام هوليودية لا علاقة لها بالواقع! ولا ننسى أيضا نفيه وصول القوات الأميركية إلى بغداد، بينما تظهر لنا على الشاشات صور تلك الدبابات على الجسر الذي كان يقف الصحاف في شرفة الفندق القريب منه، حتى ان بعض الصور أظهرت الصحاف والدبابات الأميركية في اللقطة نفسها!
طبعا الصحاف بعد كل هذه الأهاريج والأهازيج والأماريج، كان أول من استسلم للقوات الأميركية، وسعى إليها دون أن تبحث عنه، وكان غرضه من ذلك حماية نفسه من انتقام العراقيين منه، مختزنا في ذاكرته ما فعله العراقيون في نوري السعيد وعبد الإله وبقية الأسرة العراقية المالكة عام 1958، لذلك لم يجد من يلوذ به لحماية نفسه سوى الأميركيين.
أتمنى أن تقوم الجامعة العربية بتدوير الصحاف على الدول العربية، ليستفيد منه وزراء الاعلام العرب، حتى لا تضيع خبرته سدى!
-
ليس اليتيم من مات أبواه..
-
اليتيم من خلا من الحب قلبه.
عربان زمن الرواية
لأن الزمن هو زمن الرواية، فإن بعض العربان العاطلين عن التفكير السليم والسقيم، والذين تخلو رؤوسهم من عقول فارغة أو مليئة، والذين يمشون في الشوارع خبط عشواء فربما يرزقهم الرازق بـ «عشوة» أو بـ «غدوة» من كريم سمح المحيا أبيض اليد ممدودها، تنبح كلابه على الدوام دلالة قدوم الضيوف ووفود الوفود، ولا يقول لأمه «بولي على النار» كما يقول بيت الشعر الشهير!
هؤلاء المساطيل المعاطيل المباطيل، صدقوا انهم نجوم الرواية، وأن الزمن زمنهم والمكان مكانهم، وأن دورة الزمن دارت ثم دارت لتقف عندهم، وتدعوهم لركوب قطار السعادة والابداع، والشهرة والأموال التي ستنهمر على جيوبهم الشاكية على الدوام من خواء مزمن!
فانهالت على رؤوسنا روايات ضعفاء القوم والواهنين والشاكين الجوع والسغب والمسكنة والمذلة وربما اليتم والزغللة وارتعاش اليدين، فسفحوا رواياتهم في السوق البيضاء حتى سودوها وسودوا معها وجوههم، التي ليست بحاجة إلى مزيد من السواد.
رواية تتحدث عن كلب ضال «ربما يقصد مؤلفها نفسه»، يشكو الجرب ويشم الجوارب الآدمية الملقاة في حاويات القمامة.
ورواية جعل كاتبها بطلتها امرأة تزن طنا ونصف الطن في غير أيام رمضان، أما في رمضان فيرتفع منسوبها إلى ثلاثة أطنان وربع الطن على مقياس ريختر.
وأخرى عن نملة عرجاء، يشك مؤلفها أنها عمياء، وأن أمها طلبت الخلع من أبيها لأنها اكتشفت علاقة آثمة تجمع الأب بـ «كونداليزا رايس».
ورابعة وخامسة وعاشرة ومائة، وكلها تدور حول تلك الحكايا والجنايا والرزايا، والنكبات المتواليات المتوالدات على رؤوس من يقرأ، أو من يصدق أن الزمن زمن الرواية.
ميزة العربان في «بلاد العرب اخواني من الشام لتطوان»، هي اعتقادهم أن الأزمنة كلها أزمنتهم هم، وأن أمم الأرض كلها لا تستحق الحياة ما دام رأس بني يعرب «يشم الهوا»!
خطافون لكل شيء، خطاؤون في كل أمر، يرتكبون الخطيئة ويعتبرونها خطأ، ثم يتعالى المنسوب عندهم فيصير الخطأ زلة، ثم تتحول الزلة إلى فضيلة، وبعد ذلك يطالبون بالتكريم.
أبكمهم خطيبهم، وأصمهم حكيمهم، وأعماهم دليلهم في الليل البهيم، وأجهلهم في صدارة مجالسهم.
إنه فعلا زمن الرواية العربية، ولو استغل العرب رواية واقعهم لصاروا أكبر الروائيين، وأثرى القصاصين، وأصدق الصادقين، ولنالوا الجوائز الكبرى في «الرواية الواقعية»، ولكن مشكلتهم أنهم لا يصدقون واقعهم أو لا يعرفونه، ولكنهم يعرفون «ماضيهم» الذي لم يعيشوه ولكنهم صدقوه.