صالح الشايجي
-
المملكة العربية السعودية بـدأت تجنـي ثمـار «جامعة الملك عبدالله» قبل أن تبدأ الدراسة
-
كاتب «الزبدة» و«الكبدة» سمع اسمي فانشطـر وأصابته سكتة لسانية
-
علة البدو أن الوفاء طبعهم والكرم شيمتهم والحـب خارطتهـم
-
دخلت العاصمة الرياض واحتضنتني «الرياض» فتغير الواقع السعودي في عينيّ
-
تطير على بساط الريح روحي..
تريني من أصناف الحياة.. عذبا وعذابا
بدو الصحراء
لكل زمان صوّالوه وجوّالوه، ولا بأس من دولة أو أمة تصول وتجول، ثم تنشأ أخرى تصول مثلها وتجول أيضا.
هذه هي طبيعة الحياة منذ أن اعتلى الإنسان متنها لا ليطير ولكن ليبني فيها ويعمّر.
في الطائرة التي أقلتني من بيروت الرائعة إلى جدة الزاهية، لتلبية دعوة كريمة لحضور حفل افتتاح جامعة «الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا»، قرأت في إحدى الصحف اللبنانية، مكتوبا لأحد القراء اللبنانيين، يلوم فيه حكومته على استيراد الغذاء من «بدو الصحراء»!
والمعنيّ بـ «بدو الصحراء» معروف، والمقصود به – طبعا – شعوب الخليج العربية، و«البداوة» هي السجن الذي حبس فيه عربان «أهل الماء» عرب «الرمال»، أو بمعنى أصح حبسوا فيه أنفسهم، وضيقوا حدقات عيونهم وأغلقوا آذانهم حتى لا يروا أو يسمعوا، كيف أضحى «بدو الصحراء» وكيف صارت مدنهم، وكيف غدت حياتهم وصارت علاقتهم بالعصر، وكيف هم مصدر أرزاق شريفة، وكيف يُعلون ويعمّرون في بلدان «أهل الماء»؟!
«بدو الصحراء» أولئك، أنشأوا في جوف بيتهم (الصحراء) جامعة لها كتف تناطح به كبريات الجامعات في العالم، أو كما أسموها «بيت الحكمة» الذي طوّر ثقافة العرب في العصر العباسي، فخرّج من خرّج من علماء ذلك العصر الذين مازال إشعاعهم العلمي يصب في عيون الشمس كل يوم وعلى مدى الأزمان كلها.
علّة «بدو الصحراء» أن الوفاء طبعهم، والكرم شيمتهم، والحب خارطتهم التي يسيرون عليها فلا تأخذهم أقدامهم إلى ضلال..
لا يشمتون لأن الشماتة ليست من شيم الكرام، وهم كرام محتدا ومنبتا ويدا..
لا يكرهون لأن الكره داء تعرفه القلوب الصفراء والسوداء والملونة بألوان الكراهية كلها، أما قلوبهم فهي بيضاء لا تتلون بمرور العصر وتقلّب الأزمنة وتغيّر الأحوال.
هي بيضاء حين كانوا في مسغبة وجوع ترميهم صحاريهم شمالها وغربها وشرقها وجنوبها.
تطمرهم رمالها.. وتأكل لهاثهم فيافيها.
يضربون في عمقها، لا يخشون سباعها ولا ضباعها، ولا يجفلون من حيّاتها وعقاربها، ولا يفرّون من أمام وحوشها.
زادهم في ذلك الزمن.. صلابة في العود.. وشجاعة في القلب..
يقُرون أضيافهم.. ويبيتون على الطوى.. جياعا تُغذّي أحشاؤهم بعضها..
وحين دار الزمن دورته.. وحل الخصيب محل الأجدب ومكان القاحل وبدل الأجرد.. لم يبطروا ولم يتعالوا ولم ترتفع قاماتهم عما كانت عليه أيام العوز والجوع والليالي الراقدة على أكف السكينة المرتعدة.
قاماتهم عالية في فقر وغنى.
ركبوا السيارة، ولم ينحروا الجمل.
وسكنوا القصور ولم يحرقوا الخيمة ولم يطووا بيت الشعر..
لبسوا غالي الثياب ولم يتنكروا لخشنها والمرقّعات من ساترات أجسادهم..
درسوا.. وتعلموا... وتخرجوا في أرقى الجامعات، وسارت ألسنتهم برطانات العالم أجمع.. ولم ينسوا أن ألسنتهم عربية مبينة فصيحة..
لم يكشفوا عورة.. بل ستروا عورات كانت على حدود الانكشاف.
سارت الثروات تحت أقدامهم.. فلم يعايروا فقيرا بفقره.. ولكن أعالوه وأعانوه وجعلوه منهم.. قرّبوا البعيد واحتضنوه وأغدقوا عليه، فلم تَدرِ لياليهم بما تفعل أيامهم..
كتموا فعلهم الأبيض، لا خشية من حسد، ولكن تعففا وتكريما لمن سيّروا إليهم خيرهم حتى لا يكشفوا حاجتهم وعوزهم.
لهم في كل شبر من أرض «أهل الماء» شجرة يأكل ثمارها زارعوها من «أهل الماء».. ولم يزرعوها ليأكلوا هم ثمرها..
يفرحون إذا ما أصاب الخير غيرهم، أكثر من فرحهم حين يكون لهم..
يحقنون الدماء.. ويبلسمون الجراح.. ويُسكنون المتحاربين بين أضلاعهم الدافئة..
أولئك هم «بدو الصحراء» يا ذوي القلوب الصفراء.. فدلوني علي نقيصة فيهم..
داووا يا ذوي الصفرة صفار قلوبكم بالمحبة وبتفتيح عيونكم على الواقع ومتحولاته، فليس لـ «بدو الصحراء» ذنب إن رحمتهم الأقدار وجادت عليهم فدخلوا العصر فاتحين مغلقات أبوابه وزهزهوا وبسطوا أيديهم وفتحوا قلوبهم واسعة لذي صفرة في القلب والوجه.. وعلّته الحقد الأسود الذي هو كـ «النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله».
-
عمى العين عاهة..
وعمى الروح مصيبة
قلب أصفر
وهذا نموذج لذوي القلوب الصفراء:
قادني مرافقي في مطار الملك عبدالعزيز في جدة الى السيارة التي ستقلني الى الفندق، وحين ركبت السيارة ألقيت بالتحية على من كان جالسا في المقعد الأمامي، فبادرني بتعريف نفسه ومد يده لمصافحتي دون أن يراني ولأن الوقت كان ليلا، فصافحته وعرّفته بنفسي. فما إن سمع اسمي حتى غلت المراجل النووية في داخله، وانسطر وانشطر وتفتت وتجزأ وتشظّى وصار غبارا من رماد محروق لجسد كان قبل ثوان لإنسان ناطق، وأحسست ان مسامات جلده انغلقت فلم تعد تفرز أو تسمح لجلده بالتنفس وأن شعر بدنه قد تحول إلى شوك كشوك الصبار وأن عينيه قد سقطتا وأذنيه غادرتا رأسه، واحدة إلى أوروبا والثانية إلى القارة المفقودة.
تحول فجأة إلى رجل «مش على بعضه» ولا على «بعض غيره»، حتى أن مفاجأة اسمي حين سمعه، منعته من المجاملة المعتادة في مثل هذه الأمور وإبداء الترحيب اللازم بأن يقول مثلا «أهلا وسهلا» كما يفعل الأصحاء من الناس، ولكن صاحبنا هذا أصيب بسكتة لسانية وتعكر في المزاج وانسداد في الشرايين وضيق في الأفق وارتجاف وارتعاف وانعكاف وانعطاف!
أما لماذا حلت هذه الحالة المزاجية السيئة فجأة على صاحبنا ذي القلب الأصفر؟! فلهذا قصة أو أقصوصة قصيرة، لا مانع من سردها.
صاحبنا هذا المرتجف المرتعف المنعكف المنعطف، هو صحافي من كتّاب الكلمات السائحة المائحة التي لا تسر أعين القارئين ولا تطرب لها آذان السامعين. يبدأ مقالته عن «الزبدة» وينهيها بـ «الكبدة».. مرورا بالمطبخ الاسترالي وسيقان «مارلين ديترش» و«تينة جدته» و«مشمش خاله».. وهكذا دواليك وحواليك، اما اذا ما ساحت «زبدته» واحترقت «كبدته» وعجفت «تينة جدته» واصفر «مشمش خاله»، ولم يجد ما يكتبه، فهو في هذه الحالة، يملأ قلمه من «صفرة قلبه» ليشتم الكويت، وشتيمة الكويت وأهلها وبرلمانها، هي موضوعه الاحتياطي الاول الذي يستعين به حين يتكسر لاعبوه كلهم، فلا يجد ما يلعب به سوى «الكويت».
ولما كنت قد طالبته مرارا وباحترام بالكف عن هذا النهج الاسترزاقي الرخيص، فقد اعتبرني عدوا في ساحة الوغى لابد من قتلي وان لم يكن فأسري على الاقل، ولكن ولأنه محارب بلا سيف او ان سيفه مثل قلمه مثلوم وناب، فلم يسعفه حين انفتحت ساحة الوغى، فلاذ بالصمت، وهو عادة الجبناء، وصاحبنا سيدهم، على اعتبار ان «سيد القوم خادمهم»!
-
مسافر.. حقيبتي جلدي..
ومتاعي عظامي..
اغسلوا قلوبكم بماء «بدو الصحراء»
كانت زيارتي الصحافية الاولى للسعودية اواخر عام 1979، وفي اعقاب احداث الحرم المكي، او ما عرف بحركة «جهيمان» الدموية، وكان مقررا لي ان امكث هناك اياما قليلة، وكنت احمل ـ آنذاك ـ صورة مشوشة عن الواقع السعودي، وكنت قلقا ومضطربا حول كيفية تمضيتي هذه الايام في الرياض، وتقبلت الامر و«نويت الرحيلا» ولكن ما ان وطئت قدماي ارض «الرياض» حتى تغير كل شيء وانمحت تلك النظرة وتبخر ذلك الرأي والتصور عن واقع الحياة في الرياض، فلقد احتضنتني جريدة «الرياض» برئاسة زعيمها «تركي السديري» وجمهرة العاملين فيها من امثال «يوسف الكويليت» و«محمد الجحلان» و«محمد اباحسين» و«سلطان البازعي» و«سليمان العصيمي» و«محمد رضا نصرالله» و«محمد علوان» و«حسين علي حسين» ومجموعة اخرى من الاشخاص الذين ربطتني بهم صداقة مستمرة حتى يومنا هذا.
عدت الى الكويت بانطباع آخر ومغاير لما كنت عليه، ومبهورا مما رأيت من اولئك الشبان السعوديين الذين يقودون بأنفسهم سفائنهم ولم يستعينوا بربابنة من عبر البحار او عبر الصحارى، وكتبت في ذلك سلسلة مقالات نشرتها حينها في «القبس».
اما زيارتي السريعة والمختصرة الاسبوع الماضي لمدينة جدة، والتي اقتصرت على حضور حفل افتتاح «جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا» في منطقة «ثول» التي تبعد عن مدينة جدة قرابة السبعين كيلو مترا، فكانت شيئا آخر، شيئا اكثر فرحا وبهجة وانبهارا.
الانبهار بالجامعة يفوق طاقتي انا شخصيا، فهي مدينة متكاملة ومن الظلم ان نقول انها جامعة فقط الا من حيث مستواها العلمي المتميز، فيكفي ان السيارة التي اقلتنا اليها امضت ثلاثين دقيقة تسير داخل تلك المدينة «الجامعة» منذ دخولنا بوابتها حتى مقر الاحتفال، وكان حفل الافتتاح يفوق وصف الروعة، فلقد جمع فيه جلالة الملك عبدالله زعماء من العالم اجمع، ومن لم يستطع من الزعماء المشاركة في هذا الحفل ارسل مندوبا عنه، بل اننا نستطيع ان نقول ان مؤتمر قمة عربيا مصغرا قد انعقد على هامش هذا الاحتفال، حيث حضر الحفل الى جانب جلالة خادم الحرمين الشريفين، صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الاحمد، وملك البحرين وملك الاردن والرئيس السوري بشار الاسد والرئيس اليمني والرئيس الصومالي والرئيس السوداني ورئيس جزر القمر ورئيس جيبوتي، ومن حالت ظروفه دون حضوره ارسل من ينوب عنه، وتمثل لبنان برئيس وزراء حكومته المعلقة «فؤاد السنيورة».
ولن اخوض في انبهارات حفل الافتتاح، فتلك تتعصى علي وتحول دونها قدرتي على الوصف، ولكن ما اود القفز اليه مباشرة، هو الحضور النسوي السعودي حيث امتلأ المكان بنساء سعوديات لم يجئن للفرجة، بل للعمل والانجاز والمشاركة في هذا الحفل إما تنظيما او لأنهن ضمن هذا الجسد الجامعي الحيوي الجديد، وكان وجود المرأة الى جانب الرجل دون حاجز او حجاب امرا لافتا للنظر، ولم ار ما يدل على استهجان او امتعاض من هذا المشهد الذي تشهده الارض السعودية، بل كان الامر شديد الاعتيادية وكأنه نمط اجتماعي ضارب في القدم.
ولم يقتصر الوجود النسوي السعودي على اروقة الاحتفال، بل هن موجودات كمنظمات ومشرفات على ترتيب زيارة ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مدعو واقامتهم، لذلك كان وجودهن في الفنادق ـ نهارا بكامله وليلا بأكمله ـ امرا لافتا للنظر، فلم تجزع الفتاة السعودية من بقائها خارج بيتها طوال الليل وحتى الصباح لأداء مهمتها بجدية ومهنية تفوق كفاءة النساء في البلدان الاخرى واللواتي تعودن على مثل هذه الامور وتدربن عليها منذ عقود طويلة من سنوات، ولكن المرأة السعودية اختصرت الزمن وحلقت سريعا وتميزت في انجازها وجديتها.
ما رأيته في زيارتي هذه يجعلني اخلص الى نتيجة مؤداها ان المملكة العربية السعودية، بدأت تجني ثمار «جامعة الملك عبدالله» قبل ان تبدأ بتخريج كوادرها الدراسية.
فرح يغمر صدر كل عربي، حتى قلوب ذوي الصفرة الذين اتمنى ان يغسلوا قلوبهم بماء هذا الانجاز، عل قلوبهم تصفو وتبيض وتصير اكثر بياضا اذا ما زادوها غسيلا بماء «بدو الصحراء».