-
حكاية شحادة حيدر ورسالة الشكر التي وجهها له الراحل الشيـخ عبـدالله السالـم
-
كنت أشتري ملابس عمر الشريف ورشدي أباظة بمجرد خروجي من «دمشق» أو «الأهرام» أو «الشرق»
-
أول الكلام مثل آخره مثل أوسطه إما أن يكون قبحاً أو جمالاً
-
عندما أخذني زميل القلم صلاح الساير إلى سوق الحميدية رشرشتنـي زخـات العطر
-
من غلب وحدتنا وفصل الإقليمين وقصّ جناح النسر ونثر ريشه؟
لا متطفلاً أكتب.. ولا متلطفاً
لم يكن من نبش الزوادة بد، فطوازجها كثيرة، وأيضا شهية، وما أشهى طازجات الكلام ولدانة الحروف حين تميس أمام عين قارئها، دون حواش دقاقة وهوامش زمارة.
أغرف من زوادة الأسبوع الماضي، التي أفرغت منها بعضها لا كل ما حملت وما تزودت به من أسبوع دمشقي اتسع قليلا ليكون سوريا جاوز حدود العاصمة «دمشق»، فكانت زيارات هنا وهناك، صافحت فيها العيون بعض ملامح الأمس، وجديدا لم تره من قبل.
وأنا إذ أكتب عن «دمشق» فلا أكتب متطفلا ولا متلطفا، ولست أؤنق قلمي فأفحص عبارتي بمجهر فحص الماس والمجوهرات.
أكتب عن عمر زهري أزهر في ربوعها وزها.
أكتب عن خيوط حاكت عباءة حياتي في فترة قادت إلى النضوج.
أكتب عن زمن كانت الحياة فيه أجمل وأيسر، وأكثر دفئا.
عن زمن لم تتقوس فيه الكلمات.. ولم تغط صباحاته بالأستار السوداء الكئيبة.
عن زمن يسمح للجمال بالعبور ولا ينصب له الفخاخ.
زمن كانت المرأة فيه تتباهى بجمالها، تعرف أنها تغذي الحياة بهذا الجمال، وتزين وجه الأرض ببعضه.
زمن كان الناس فيه يؤسسون لغد قد يعيشونه، وقد لا يرون فيه انبلاجة فجره.
حزمة أضواء، تشع في الرأس وتهدي العين وتهدئ النفس.
ولا أكتب متلطفا ولا مؤنقا قلمي ولا فاحصا بمجهر الفحص الدقيق كلماتي.
أكتب عفو الخاطر، وعلى سجية القلم وطبيعته، لا أرشّد مسيره، ولا أهديه ولا أضع له علامات المرور والتوقف وحدود السرعة.
لست في مهرجان للكلام، ولا أعتلي منبرا للخطابة، ولست في امتحان فصاحة، ولا اختبار بلاغة.
لست في سوق عكاظ «أبيع قصيدتي» للتاريخ كي يعلقها على صدر الزمن.
ولست في «المربد» الأول، ولا «المربد» الأخير الذي ملأ سماء «بغداد» كذبا ونفاقا وصدّاما.
أنا في حاضرة الدنيا، أودعت فيها قلبا كان صغيرا وكبر.
نافلة الكلام زوائده وحواشيه وهوامشه، ولست حين أخاطب من أحب بحاجة إلى أن أتزود بالحشو والحاشية ولا بالهامش ولا بالزوائد، فالمخزون كاف من صافي الكلام وصادقه.
والعين إذ ترى، ينطبع فيها ما تراه وترسله إلى الخزانة المركزية «الذاكرة» حيث يبقى هناك يشاغل الفرص حتى يقدر له أن يتحرر من قيود التخزين.
وأول الكلام، مثل آخره، مثل أوسطه، سلسلة متماسكة، إما أن يكون قوامها من جمال أو من قبح، ولا شيء بين القبح والجمال، حتى وإن حاول صانعو الوهم صنع منطقة وسطى بينهما.
وأنا في محاولة للإفراج عن مخزون الذاكرة ومزجه بالجديد الذي رأته عيناي الدمشقيتان وكساهما بريقه، محاولا أن يكون المكتوب مشابها من حيث الصفات الجمالية لذلك المرأى الدمشقي، فإن أحسنت فلي أجر الإحسان، وإن أخطأت أو أسأت فلا أجر لي، لأنه لا أحد يؤجر على الخطأ ولا على الإساءة أو القبح.
فمن يعطِ الكلمات أجرها قبل أن يجف حبرها، فهو مشكور.
ومن رجمها بقبح أو زلة أو فجاجة، فسأكون معه من الراجمين.
سوق الحميدية
حين أخذني صديق «نصف العمر الأخير» وزميل القلم «صلاح الساير» إلى سوق الحميدية، أحسست فجأة بأنني أتعطر، وأن زخات العطر ترشرشني، وأن رذاذه يسكرني.
سرت في «الحميدية» ورأسي ملفوف بشرائط الذكرى الملونة.
إلى هنا صحبني أبي ومازلت ـ بعد ـ صغيرا، ذات صلاة لعيد الأضحى، وهنا في ذلك اليوم العيدي، وقفت مع الواقفين على الصفين، لنرى جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وشكري القوتلي الرئيس السوري، الذي سلم مقاليد البلدين، سورية ومصر، إلى جمال عبد الناصر، إبان الوحدة الاندماجية الكاملة التي ضمت البلدين ولم تعمر طويلا، حيث أطاح بها الانفصال وهي بعد في الثالثة من عمرها، والتي قال فيها القائل «وحدة ما يغلبها غلاب»، ولكن أمنيات الأغنيات لا تطابق الواقع بالضرورة، فجاء من «غلب» هذه الوحدة وفصل الإقليمين الشمالي والجنوبي، وقص جناح النسر ونثر ريشه.
رأيتهما، جمال والقوتلي، وقد أنهيا صلاة العيد في الجامع الأموي وقطعا الدرب سيرا على الأقدام حتى مخرج سوق الحميدية.
وتذكرت أيضا وأنا في أرجاء «الحميدية» وأجوائه الملونة المعطرة، بائع النايات الشهير الذي كان يقطع السوق جيئة وذهابا، وفي جعبته ناياته، وفي فمه أحدها يشجي به أسماع المتسوقين، عازفا أشهر أغنيات ذلك الأوان الجميل، وتذكرت كيف كنا نبتاع منه النايات، يغرينا ما نسمع من نغمات جميلة، ظانين أننا ـ وبمجرد النفخ في تلك الماسورة الجوفاء ـ قادرون على عزف الأغنيات التي كنا نحبها ونحب سماعها.
وبائع «العرقسوس» ساقي العطاش، ومثله بائع اللبن الذي كان يداوي عطشنا بلذيذ ما نشربه من تلك القارورة المليئة بياضا مثلجا.
تكاد محلات «الحميدية» تعاند الزمن، أو هي عاندته فعلا، ترفض أن تتزحزح عما كانت عليه، لا من حيث المكان، بل من حيث ما تسوقه وتبيعه من بضائع لا تكاد تصل حتى تعرف طريقها إلى زبائنها، فلا تقر على رف ولا تستقر عليه.
تذكرت، كيف ونحن في طور المراهقة لا يكاد يمر علينا يوم إلا وقد ابتعنا من ذلك السوق ما نؤنق به أنفسنا من ملابس حديثة وجميلة، متأثرين بأبطال السينما في ذلك الزمن، عمر الشريف وأحمد رمزي وشكري سرحان وكمال الشناوي ورشدي أباظة، أو عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، وهما المحتلان عرش الغناء آنذاك.
فما أن نرى أحد أولئك النجوم في فيلم حضرناه في سينما «دمشق» أو سينما «الأهرام» أو «الشرق» أو «عايدة»، حتى نخرج بعد الفيلم إلى «الحميدية» لنشتري ملابس شبيهة بملابس نجمنا المحبوب، مؤملين أنفسنا بأن نصيبنا سيكون مثل نصيب ذلك النجم من حيث الوسامة أو القوة، أو قوة جذب الجنس الآخر.
«زوربت» إلى جادة «عبدالقادر الحسيني»، وهي إحدى الجادات التي تفضي إلى سوق الحميدية، وقد أخذني الحنين إلى متجر المرحوم «سعيد الأوبري»، صديق والدي وصديق كويتيين كثر، عرفوه وعرفهم، وكانوا أوفياء معه حتى ماتوا، وكان وفيا معهم حتى وفاته.
ذلك المتجر كان نقطة انطلاقنا ونقطة عودتنا والتقائنا، فمنه ننطلق إلى «الحميدية» ونقضي فيها معظم نهارنا بين المطاعم والمحلات، ثم نعود إليه حيث الوالد ينتظرنا هناك، ثم العودة مجددا إلى البيت.
راحت عيناي ترصد أسماء المحلات والمتاجر في جادة «عبد القادر الحسيني»، ولكن ما كنت أريد أن أراه لم أره، غاب المحل على ما يبدو مع غياب صاحبه.
و«بوظة بكداش» إحدى معالم ذلك السوق العتيد العتيق، لم أستطع مقاومة نكهة الزمن، ولا نكهة تلك البوظة الشهيرة التي اشتهرت بطقوس صناعتها وتحضيرها، ولا أنسى تلك المشاهد الجميلة لصناعها وهم يدقونها بمدقات تصدر أصواتا ايقاعية جميلة، يكاد المارة في السوق جميعا يسمعونها.
انهارت مقاومتي فخرجت على بروتوكول الحمية التي ألزم نفسي بها، وجلست في «بكداش» وطلبت «بوظته»، واستطعمت الحنين في فمي مثلما استطعمته عيناي.
برمّانة رعد
«برمّانة رعد» لها من اسمها نصيب.
هي ضيعة تنام على جبال «طرطوس» الساحلية.
ضيعة خضراء يتشابه سفحها وجبلها من حيث الاخضرار، ويتنافسان عليه.
وادعة، هادئة، بسيطة، بيوتها يساكن بعضها بعضا، يكاد البيت يدخل الآخر لا يجاوره.
البيوت موزعة على أزقة وشوارع ضيقة. وأسميها - شوارع تجاوزا، فهي ممرات تفصل البيوت المتقابلة لا أكثر ـ ساكنو تلك البيوت من أهل الضيعة أقرب ما يكونون إلى عائلة كبيرة.
تبعد عن دمشق (200كم) من جهة الشمال، وحوالي ربع ساعة من «طرطوس» الساحلية والميناء التاريخي القديم. ورغم بدائية هذه الضيعة فإنها كاملة الخدمات ولا ينقصها منها شيء، حتى «الانترنت» متيسر هناك، وطرقها وأزقتها وممراتها كلها معبدة بالقار، ولا تكاد ترى الرمل فيها إلا في ممرات حقولها ومزارعها.
أما نصيب «برمانة رعد» من اسمها، فهو يتمثل في
كثرة الرمان فيها، ولا يكاد
يخلو بيت من بيوتها من شجرة رمان، ولكم رأيت رمانا قذفته أشجاره دون أن تمتد يد لقطفه.
وأشهر منتجات تلك الضيعة هو «الزيتون» وزيته الذي يكاد يشكل نهرا جاريا فيها. ولتعظيمهم لشأن الزيتون وتقديرا لأهميته، فإن أهالي الضيعة يتشاركون جميعا في قطفه، لا يتخلف أحد منهم عن تلك «المهمة الوطنية»، الطبيب والمهندس والمعلم ينخرطون بجانب الحرفيين وربات البيوت والعمال، ويتراكضون إلى الحقول الخضراء لجمع الزيتون، وهم فخورون بذلك، يحيون الأرض ويخدمونها دون توان أو تلكؤ.
وكذلك تشتهر «الضيعة» بنهر جار اسمه نهر «الخوابي»، الطريق إليه يحتاج من قاطعه إلى ترديد كل ما يحفظه من أدعية وابتهالات وتضرعات فبين صعود وهبوط وواد ذي زرع على الشمال، وآخر مثله على اليمين، تقطع المسافة وصولا إلى نهر «الخوابي» المتدفق ماؤه والبارد فراته، يلذ للشاربين وأنا منهم، حيث غرفت منه بكفي وشربت من زلاله.
شحادة و«عبدالله السالم»
قبل أن اطوي صفحتي وأعيد قلمي إلى مهجعه، لابد لي من سكب صورة قلمية عن رجل اسمه «شحادة حيدر»، أحد أبناء ضيعة «برمّانة رعد».
هو رجل ودود محب للناس ويسعى إلى التعرف عليهم، وفتح خزانة قلبه لهم.
كنت عابر سبيل في إحدى طرقات الضيعة، فإذا برجل مسن وقور ذي هيبة، مليح القسمات انيق الملبس، يخرج من أحد البيوت ويحييني ويتعرف علي ويعرفني بنفسه.
وكانت المفاجأة أنه بمجرد ان عرف أنني من الكويت، توقف يسرد لي قصته مع الكويت، حيث قال: في عام 1961، وبعد ان هدد «عبدالكريم قاسم»، رئيس العراق آنذاك، باحتلال الكويت، أرسلت رسالة إلى الشيخ «عبدالله السالم»، أمير الكويت، أعلن فيها وقوفي مع الكويت واستعدادي للدفاع عنها.
ويضيف «شحادة» أنه بعد مدة تلقى رسالة جوابية من «بدر الملا»، سكرتير الشيخ عبدالله السالم، يشكره فيها باسم الأمير على مبادرته وشهامته وأنه مازال يحتفظ بتلك الرسالة.
وأطنب الرجل في الحديث عن الكويت ودورها في إغناء الثقافة العربية، وخص بالذكر مجلة «العربي»، ذائعة الصيت وبالذات في تلك الفترة.
وهو مازال على تواصل مع الثقافة الكويتية، وذكر لي بعض الأسماء الكويتية من الوسط الثقافي الكويتي يقرأ كتاباتها ويتابعها باستمرار.
أفرحني وجود مثل هذا الرجل والكلام الذي سمعته منه، وأشعرني بالفخر والزهو.
ولما قصصت حكاية الرجل على معارفي من أهل الضيعة، عرفت أن هذا الرجل «شحادة حيدر» هو معلم الضيعة وأستاذها، وأن معظم أهل الضيعة تتلمذوا على يديه.
-
شكرا يا حديقة الياسمين.. «دمشق»
-
أعدت لي زهوة شبابي وزهرة عمري
-
صافحتك بحب.. فغمرتني بفيض منه