إن البلدان تحكمها قصورها لا شوارعها.
وويل ثم ويل لبلاد تحكمها شوارعها، وقصورها مهجورة تنعى من بناها.
أعتذر عن استخدامي هذه اللغة التقريرية الموغلة في الزمن والمتسربلة عباراته الموحشة، ولكن لي عذري في ذلك وأنا أرى -فعلا لا توهما- أن البلدان باتت محكومة من قبل شوارعها لا من قاعات قصورها.
عنيت من البلدان ما ينطق بالعربية ويفكر بها، ولم أعن كل بلاد الأرض من شرق وغرب، فتلك البلاد محمية بأهلها أو بعقول أهلها ووطنيتهم رغم أنهم لا يتغنون مثلنا بحب الوطن صبحا وعشية.
إن الشوارع الحاكمة لا أعني بها الشوارع الفعلية التي يمشي فيها المارة ويعبرها العابرون وتدوس عجلات السيارات سواد قارها وتعمر أرصفتها بما لذ وطاب مما يغازل العيون أو مما تشتهيه البطون، بل هي شوارع افتراضية لا قائمة لها ولم يدق فيها مسمار واحد ولم يحفر فيها شبر واحد. هي شوارع لا أرض لها ولا جدران ولا أسقف.
شوارع شيطانية، وبيوت للعناكب والخفافيش والقناصين المأجورين.
دون أن أكشف ما هي تلك الشوارع وقبل أن أسميها، فإنني على ثقة بأن كل من قرأ سطوري هذه، عرفها.
إنها مواقع التواصل الاجتماعي أو هكذا يسمونها، أما حقيقتها فهي مواقع التباعد والتنابز والتجافي والتباغض.
كل ذي عائبة في أهل أو في ذمة وكل ذي نقيصة وكل ذي نفس سوداء مجبولة على البغض، صار حاكما في تلك الشوارع يتخندق وراء اسم وهمي هش بليد ويقوم بإطلاق سهام الكراهية وزرع الفتنة والبغضاء ويؤجج ويمضي في طريق الشر بحثا عن شرر ليجعله نارا ساحقة ماحقة.
إن هؤلاء السفلة المعابين هم الذين مع الأسف يقودون مجتمعاتهم وباتوا يؤثرون في سياسات بلدانهم وباتت حكوماتهم تخضع في كثير من قراراتها وسلوكياتهم لهم وتشتري خواطرهم.
إن هذا الأمر مهدد حقيقي للأوطان ينذر بتفككها وإشعال الحروب الفئوية فيها وفي أقل المخاطر هو يؤدي إلى تسيد هذه الطبقة الدونية والتافهة في مجتمعها لتعلو من القاع حيث مكانها الطبيعي إلى الذروة التي لا تستحق حتى أن تكون في ذراها.
[email protected]