- الموت مجـــرد حلقــة في سلسلة من أحزان «ابن زريق» وحبيبته «هند»
- الشاعر.. صنعه اليتم وعجنته القســوة وقتلـــه الحـب
مقدمة لقلب أتعبه الحب
للحب في العصور كلها.. وفي مواضع الأرض جميعا.. التلاوين ذاتها.. والاشعاعات عينها.. والخسائر والهزائم.. والانكسارات والدموع.. والأفراح والمنون..
يقتل ويحيي..
يزهر.. ويجدب
يروّي جفاف القلوب.. ويجفف ريانها.
ذلك الحب
والشاعر «ابن زريق البغدادي» الذي روى روايته وكتب قصته.. الصديق «أحمد الدوسري» في كتاب يقع فيما يقارب 250 صفحة، هو مثل من أمثلة ذلك الحب الذي يلهب الصدر، ويشب في القلب نيرانا لا تنطفئ إلا بالموت.
ليس للأحزان من خاتمة
صفحة حب دام.. فتحها «الدوسري» وغاص في سنيها وتفاصيلها..
أجنحتها. وعكازاتها..
أشواكها.. ودموعها..
سفائن الصحراء.. وسفائن الماء..
شهقات الموت.. والوداع الذي لا لقاء بعده.
والموت الذي.. لم يكن خاتمة الأحزان.. ولا أولها.
الموت مجرد حلقة في سلسلة من أحزان «ابن زريق» وحبيبته «هند» ابنة عمه..
صنعه اليتم.
وعجنته القسوة..
وقتله الحب..
هندٌ.. في الأرض والقلب
لا تعذليه فإن العذل يولعهُ قد قلت حقا ولكن ليس يسمعُهُ
نعم.. تلك «هند» حبيبته التي قتلته بحبها.. لا بسكينها ولا بخنجرها..
تعذله.. تطلب منه البقاء حيث هي.. .حيث الحب الذي لا يفارق قلبها... ولا قلبه..
هنا.. حيث نما الحب في قلبيهما.. وكبر..
استبد بهما الهوى.. كأنما ليس في الأرض من امرأة.. سوى «هند» وليس في الدنيا رجل إلا «ابن زريق» الحبيب المحب الصادق.. الشاعر الذي ترجم حبه شعرا أبكى من سمعه.. حتى قساة القلوب.
تشاكل الليالي وتشابه الأيام
نشأ ابن زريق في بغداد العباسية..
فقيرا.. معدما.. ثم يتيما.. لا ظهر أب يقيه نائبات الدهر.. ولا كف أم يغزل له ساترا من غائلات الزمن..
كفله العم الذي لم يكن حاله بأحسن من حال أخيه المودّع الحياة بفقر.. وبابن وحيد اسمه «علي بن الحسين بن زريق» وزوجة لم تعمّر سوى سنتين بعد موت زوجها.
هكذا ابتدأت حياة ذلك الطفل البغدادي «ابن زريق»..
أب وأم.. طارا على جناح الموت.. وغاصا ترابا في تراب الأرض..
وفقر.. وبؤس.. ويتم مبكر..
وعمٌّ.. تشاكلت لياليه.. وتشابهت أيامه.. وتشابكت أيادي الفقر حول رأسه.. فلم يجد منه فكاكا.
والفقر مذلة الرجال.. والعوز.. انكسارهم.. والفاقة تحني رأس من تحل فوقه..
كان العم الكادح نهاره من أجل تأمين لقمة اليوم له ولزوجته ولابنته وابن أخيه.. .ضعيفا.. أضعفه الفقر.. وأذلته الحاجة.. وسحبت منه صلاحية إدارة البيت.. وحرمته الكلمة العليا في ذلك البيت البائس ربيب الفقر والآهات المتعالية صوتا وصدى.
حديقة اللوز
تغضنت جباه السنوات التي مرت على «ابن زريق» في بيت عمه.. ويبست أشجارها.. وتكسر ماؤها.. وتصلبت أعوادها.. وانحدر عاليها.. وانطمى سافلها تحت ركام الأحزان.. ودموع الليالي.. وتيه النهارات.
تلك الصبية «هند» التي زهّر الورد وجهها.. وكحلت حالكات الليالي شعرها.. واصطبرت عيناها شاخصتين في ابن عمها.. على باب حلم حي... فاكتست سوادا غائرا.. وسوت السنون عودها.. باسقا.. طريا.. ميالا.. ناهدا.. لدنا كأنما اللوز قد زرع حديقته فيه.
ريانة.. كانت تلك الصبية....
ذات قلب مرهون.. لابن العم.. ولا غير ابن العم..
ولكن للشر.. أبوابا لا تغلق...
و«إبليس» لا يتسابق وحده في مضمار الشرور، فثمة متسابقون معه.. قد يفوقونه.. ويتفوقون عليه في حصد الجائزة السوداء..
فكانت «أم هند» هي حاصدة الجائزة السوداء.
يزرع البؤس شيئاً ضده
البؤس.. لا يني يزرع شيئا من ضده.. ويفرخ في يابس قاعه.. عيالا ذوي بأس لا ينكسر..
فكان ذا البأس الذي لا ينكسر ـ هو «ابن زريق» الذي لم يحل الفقر بينه وبين التعليم.. وذلك ما حاول العم اسداءه لابن أخيه.. من فضل.. هو نعم الفضل ونعمى الفضيلة.
اشتهر «ابن زريق» في شبابه.. بالخط الجميل الذي كان بوابة رزق له.. انفتحت في يوم ذي مسغبة.. فسدّت شيئا من مسغبته.. وزرعت بادرة أمل سرعان ما انطفأت جذوتها البكر.
خطه الجميل.. قاده إلى العمل في ديوان «قائد الجيش»..
فكان الصبي.. محل تقدير لنباهته.. وفطنته.. وحسن خلقه.. ومثابرته..
ولما كان لقائد الجيش.. امرأة ورثت عن «امرأة العزيز» الافتتان بذوي الوجوه المليحة.. وكان «ابن زريق» اضافة الى ما لديه من سمات.. مليح الوجه، فقد وقعت في هواه امرأة قائد الجيش.. مثلما وقعت «امرأة العزيز» بهوى «يوسف» فهمّت به.. وهم بها ـ لولا أن عصمه الله ـ وأدبر عنها فقدته من دبر.
قلب فتانا «ابن زريق» كان بعيدا.. يجنّح خارج سرب تلك المرأة.. ولا يقع في حبائلها.. ولا يدنو من شراكها.. ولا فراشها.
ولكن الحساد والعاذلين ومعكري الصفو.. لا يفتأون يحيكون حبائل الشر بأيد لا ترتجف.. فدبروا للفتى مكيدة.. واتهموه لدى قائد الجيش بالسرقة.. فحبسه.. ولكن المرأة المحبة أخرجته من سجنه.
سيف الفراق
حينما لاحظت «أم هند» ان قلب ابنتها تشابك مع قلب ابن عمها.. شرشرت شرارا ونارا تستعر في صدرها الابليسي.. وعملت على تمزيق القلبين الصغيرين المحبين المتحدين في الدقات والنبضات.
كان الفقر.. هو حجة الأم في عدم اتمام اقتران ابني العم: فما الذي سيزيدنا «ابن زريق» سوى الفقر..
حتى حين عمل في ديوان قائد الجيش.. وصار هناك من المرموقين في عمله.. فإن ذلك لم يشفع له عند امرأة عمه «أم هند».
فتحت له من باب التعجيز: أريد لها مهرا.. خمسة آلاف دينار.
والعم أسكته ذل الفقر.. وحنت الحاجة رأسه.. فلا يقدر على رد امرأته عما عزمت عليه.. وان كان يتمنى عكس ذلك..
كانت «أم هند» تريد تزويج ابنتها من أحد تجار بغداد.. حتى ترمم أمواله ما تهاوى من أركان حياتهم بفعل الفقر.. ووهن الأب وضعفه.
مهر هند
عزم «ابن زريق» على امر ما.. ونوى نية لم يفصح عنها.. وقال لامرأة عمه: سألبي طلبك.. وسأجيء بالآلاف الخمسة.. مهرا لقلب «هند»..
وكان ذلك العزم.. وكانت تلك النية.. هما الصفحة الأولى في مأساة «ابن زريق» التي ابتدأت هنا.. في «بغداد» لتنتهي هناك في أقصى الأرض.. وأقسى نهاية.
قمر بغداد
أطلع «ابن زريق» حبيبته «هندا» على نيته.. وأفصح عن مكنون قلبه لها.. قال لها: سأرتحل إلى الأندلس.. لأجيء بمهرك من هناك..
حاولت «هند» ان تثنيه عما اعتزم عليه.. ولكن أنى لنيران الحب ان تنطفئ بكلمات عذراء ريان عودها.. عذب لسانها.. رقيق قلبها.
هو الحب الذي استبد بقلب «ابن زريق».. ولا يبدّد هذا الاستبداد.. الا الارتحال لكسب قيمة المهر المعجز..
قال وهي تلومه على الرحيل:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلتِ حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزتِ في لومه حدا يضر به
من حيث قدّرتِ أن اللوم ينفعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي ان يودعني
صفو الحياة واني لا أودعه
وهي قصيدة طويلة بالدمع والانهيارات والمجهول..
يختمها بقوله:
وإن تغلْ أحدا منا منيته
لابد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
ضحايا الأقدار.. لا يصنعون أقدارهم
ما الذي أعده «ابن زريق» ليحصد مهر «هند» من بلاد الأندلس؟
هل سيعمل هناك.. أو يتاجر.. أم ماذا؟
عدته.. كانت.. لا هذا.. ولا ذاك..
بل هي قصيدة يمدح فيها الأمير الأموي في الأندلس ليجزيه مقابلها خمسة آلاف دينار.. هي مهر «هند» ليعود ينثرها على رأس أمها.. حتى تقبل بتزويجه من ابنتها..
فهل كان لـ «ابن زريق» ما أراد؟
هل حصد المهر.. ودق الباب محملا بما يسد نهم الأم وطمعها؟
أم أن للأقدار.. تصاريف أخرى.. لا يصنعها ضحاياها؟
قوائم العرش
للأقدار ـ بالطبع ـ تصاريف أخرى..
بعد رحلة شاقة.. مضنية.. متعبة.. متلونة الأحداث.. ومشكولة بالخوف.. ومشبوكة بالمفاجآت.. ومتعددة الأقطار..
ركب خلالها.. الأهوال.. هولا بعد هول.. وهلعا في اثر هلع..
وبين إقدام وإحجام.. وبين سفن الصحراء.. وسفن البحار.. كانت رحلة «ابن زريق» إلى الأندلس.
قطع الفيافي والمهامه والصحارى.. وأمواج البحر تتقاذفه وتتبادله.. ولكن لابد مما ليس منه بد..
«الأندلس».. هي الجهة الوحيدة التي تؤشر اليها بوصلة.. «ابن زريق» فالقصر.. فالأمير..
هناك الحصاد.. وهناك قوائم عرش «هند»..
هناك الأمل.. وهناك الحياة..
هناك زرع قلبا.. راح يحصده..
دنانير الأمير الأندلسي
وأشرقت شمس «الاندلس» في عيني «ابن زريق».
وحل في خان هناك.. في قرطبة الاندلسية، وراح يسعى الى لقاء الامير لينشد بين يديه قصيدته.. فينال استحسانه ثم مكافأته، فيعود بعدها الى «القمر الذي استودعه الله في بغداد».. الي حبيبته «هند» ليقول لأمها «لبيك وسعديك ـ يا امرأة عمي.. ها قد جئت بما تطلبين.. بمهر هند.. بالآلاف الخمسة من دنانير الامير الاندلسي»..
وكان له ما أراد.
مثل بين يدي الامير.. وراح ينشد القصيدة الكنز التي سترفعه الى سماء «هند» وستبني عرشها.
ستعود الانهار تجري.. والبلابل الصامتة سترتل من جديد ترانيمها وستزهر البساتين اليابسة.
هكذا.. حلم ابن زريق.. وحلمه مشروع.. فالأمراء لا يخذلون مادحيهم ومن يمجدهم.
الأمراء.. يجزلون في العطاء.. فكيف ستكون مكافأة من قطع الفيافي والقفار.. وركب البحر.. وتسربل بخوف اهواله، وامواجه المتصارعات؟
من بغداد العباسية.. الى الاندلس الاموية..؟
لابد ان العطاء.. جزل.. وقد يفيض.
على نار لا تهدأ
استحسن الامير وجلساؤه قصيدة «ابن زريق» فطار منتشيا.. ها هي «هند» على مبعدة عيون وانتباهاتها.
انوار العرس.. انتصبت في عينيه.. راح يسبح في زرقة عيني «هند».
ولكن.. ما لم يدر في خلد صاحب «هند» ان رياح الأمير جرت بما لا تشتهي سفن «ابن زريق».
جاءه ملاك الموت.. متلبسا صورة صاحب الامير.. ليمنحه عطاء الامير الذي امر به.. مكافأة لقصيدته.
لم يكن العطاء المأمول.. الذي تحمل لأجله ما لا تحمله الجبال.. وتغّرب.. وضرب في جوف المجهول.. وترك حبيبته «هندا» تنتظر على نار لا تهدأ.. وأوجاع.. ولوعة.. وشوق يشق سكون الليل.. ودمع مسكوب لا ينقطع انهمارا.
لم يكن ذلك العطاء سوى.. ثلاثين دينارا..
كانت سما قاتلا.. تجرعه المحب المغترب.. بأسى ولوعة.
للقلوب المحبة.. عمر الزهور
بعد ثلاثة ايام يدخل ثلاثة من حرس الامير الخان الذي احتل «ابن زريق» احدى غرفه.. واتخذ منها سكنا من شوك لا يني ينخز قلبه.
الصمت مطبق.. لا احد يرد.. لا صوت يصدر من تلك الغرفة، ما اضطر الحراس الى كسر الباب والدخول.. ليجدوا ساكنها «ابن زريق» جسدا ساكتا بلا روح.
مات «ابن زريق» قتلته ثلاثون الامير.. بعدت «هند» بات الوصول اليها دون خرط القتاد ومسافات تتجاوز السنوات الضوئية كلها.
قلب «ابن زريق» لا يعيش الا بــ «هند» ولها.. فإما «هند» او الموت.. فكان الموت.
وجد الحراس بجانب جسده الميت رقعة مكتوبا فيها تلك القصيدة:
لا تعذليه فإن العذل يولعُه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمُعُه
فلما اخذوها الى الامير وقرئت في مجلسه.. بكى الامير وجلساؤه.
قال الامير انه حين منح «ابن زريق» ثلاثين دينارا.. فقد كان يختبره، ولم يكن يقصد المكافأة التي يستحقها.. وانما بعث الحراس اليه.. ليمنحه مكافأته التي يستحقها.. ولكن سبق الموت المكافأة.. والحسرة والكمد وبعد «هند» كانت كافية لإسكات ذلك القلب الذي تجشم المتاعب من اجل الفوز بحبيبته.
ان للقلوب المحبة.. عمر الزهور.. تموت سريعا.
عباءة وقصيدة ومهر للموت
تلك كانت نهاية الشطر الاول من ذلك القلب.. وثمة شطر آخر لذلك القلب الجريح.. «هند» هي الشطر الثاني.
عاد صاحب «ابن زريق» ورفيق سفره.. وصديق عمره الى بغداد بعباءة «ابن زريق» و«قصيدته» والالاف الخمسة من الدنانير التي منحها الامير لـ «ابن زريق» وبعدما عرف قصته التي ابكته كثيرا.. وسمع قصيدته.. وتألم لما سمع وعرف.. وندم لانه كان السبب في تقطيع قلب «ابن زريق» وكمده وموته.
«ام هند» وجمت لما عرفت خبر وفاته.. وأصابها ما اصاب الامير الاندلسي.. فهي المتسببة الاولى في وفاة حبيب ابنتها.
اما «هند» ذات القلب الكسير.. فقد اغمي عليها.. وقضت ثلاثة ايام بين اغماءة طويلة.. واستفاقة قصيرة.
وجدوها بعد ثلاثة ايام.. ميتة تتوسد قصيدة حبيبها.. وكأنها تقول: ليته استجاب لعذلي وليت عذلي لم يولعه.
كان مهري في وجوده امامي.. حتى وان ما نعت امي في ارتباطنا.. لعن الله الفقر.. ولعن الغنى.
النهاية
في زاوية من زمن مهجور.. وفي غربة سوداء بلا شمس تلمع في عين صاحبها.. ولا نهار يزيده اصطبارا علي تجرع كؤوس سمومها القاتلة.. وفي غرفة «خان» يابس الاضلاع من زمن اندلسي ولى غبارا عبّأ كتب التاريخ ضجيجا غير ذي نفع.. الا لملء العين الرمداء.. كحلا اكحل من عين الليل العمياء.. كانت نهاية حب قتلت صاحبيها.