هنا كانت خطيئتي
لا أنكر.. بل أعترف بشرف رفيع عال.. مرتقٍ درجات الصدق حتى أعلاها.. متربعٍ على قمتها.. انني استحلت طفلا مدرارا للدمع.. مجرّح المآقي.. بقلب مضطرب الدقات.. سريع النبضات.. وبأوصال مرتعدة.. وأطراف مرتجفة.. وأسنان يكاد عاليها يكسر سافلها، وأنا أقرأ كتاب «إيران تستيقظ» للإيرانية الفائزة بجائزة نوبل «شيرين عبادي».
أخطأت خطأ الآثمة حين شرعت بقراءة الكتاب في مقهى بيروتي يكتظ بالمستقهين والمستقهيات الراشفين عصائرهم أو أكواب قهوتهم ومن أجيال تتفاوت أعمارا.. فمنهم من رفع يمناه مودعا الحياة.. أو دنا من ذلك الوداع الأخير.. ومنهم من جايل أحفادي.. وبين أولئك وهؤلاء.. من زهت براعمهن.. ومن تسيّد شبابهم ودقت أعوادهم.. وتصلّبت عضلاتهم.. شبانا تتكسر على أجسادهم العفية النصال فوق النصال.
وسط هذا الحشد المتزيّن.. كانت خطيئتي.. وكان إثمي.. حين فتحت كتاب «شيرين» قارئا حال اقتنائي إياه.. وما كنت أدري ماذا يخبّئ لي بين دفتيه السوداوين.
ما كنت أدري انه سيسرق دمعي.. ويسطو عليه وسط هذا الجمع الأنيق.. فلا المكان للدموع.. ولا الحضور يستحقون ان تغفل عنهم العين.
ولكن..
فطويت كتابي.. وتأبطته وغادرت متعثرا بخجلي وطفولتي المبللة بالدمع.
> > >
كلمات من شوك
«شيرين عبادي» في كتابها.. لا تطوي الصفحات.. بل تفتحها.
لا تخمد المواضي.. أو الماضيات.. ولكن تجرّحها.. وتقرّحها.. تمضي إلى تلك المواضي شاهدة عدل.. في محكمة لا تطلب شهودا.. لأنها لا تطلب العدل..
سطور كتابها.. كلمات من شوك.. ينغرز في القلب فيدميه.. بعدما يدمع العين..
شفافة في رفع الغطاء عن تاريخ إيران.. بلادها.. وحاضرها.
امرأة.. قرأت بعينها شهادة وفاتها التي لم تُوقّع بعد.. ولم يتم ختمها..
ارتعبت.. خافت.. وجلت.. عندما وجدت اسمها على قارعة الموت.. أو قائمته.. وبقرار رسمي من حكومة.. الثوريين الإسلاميين..
ارتعابها.. وخوفها.. ووجلها.. لم يدفعوها للانكفاء.. والانبطاح.. والتبطن.. والتدثر خلف جدران اسمنتية.. والاختباء في الأقبية التي لا يخترقها الموت..
بل العكس.. كان..
واجهت.. بقوة.. وخرجت الى تحت الشمس.. وقالت: هأنذا.. أسير وفق ما نذرت نفسي له.
> > >
وفوق الجماجم جماجم
عاشت.. وسط الأموات الذين يتهادَوْنَ أمام عينيها.. قريبهم.. والبعيد..
فضحت النظام القضائي في «الثورة الإسلامية» وهشاشة العدل في جمهورية جعلت الإسلام طريقها إلى الحكم.. وحادت عن الكثير من مبادئه وقيمه بحسب تأكيدات شعبها.
> > >
الشمس الجديدة
تعود «شيرين عبادي» بذاكرتها الى طفولتها.. وبداية تفتح ذهنها.. على ثورة «مصدق» والانقلاب عليه.. وسجنه.
وهي شأنها.. شأن أكثر الإيرانيين.. كانت ترى في «مصدق» الشمس الجديدة التي بزغت على بلدها إيران، ولكن جاء من سد عيون تلك الشمس.. ولم يكن ذاك غير «الولايات المتحدة الاميركية»، التي أجهضت مسيرة ذلك الرجل الوطني.. لأنه عطّل مصالحها بتأميمه للنفط الإيراني.. وجعله ثروة شعبية لأهلها.. للجميع لا لأهل القصور ولا لدول وراء المحيطات.
درست شيرين الحقوق وتخرجت وعملت قاضية وكان ذاك في زمن الشاه، الذي لم تكن تكنّ له ودا وشاركت كثيرا في كل المواقف الناقدة لحكمه، وجهازه الرهيب «السا?اك»، وتستعرض بسلاسة تلك التواريخ من ستينيات القرن العشرين وسبعينياته حتى قيام «ثورة الخميني» أو «الثورة الإسلامية» التي كانت هي على رأس أنصارها، طمعا في الخلاص من الظلم الذي حاق بالشعب الإيراني على يد الشاه وأعوانه وسلطته.
> > >
لحم القاضية بين أنياب الثورة
وجاءت الثورة وجاء المعمّمون
ولم تكن تدري انها ستكون ضحية وفريسة لهذه الثورة التي أعلنت نفسها عدوا للظلم ورافعة شعار المساواة والعدل والإنصاف.
فـ «شيرين» القاضية امتدت اليها أنياب الثورة لتأكل من لحمها، أو لتخلخل كرسي العدل من تحتها.
عزلتها «الثورة» من منصب القضاء، وأنزلت من رتبتها الوظيفية، وضايقتها، وأهانتها، وسجنتها، وألزمتها بما لم تكن مقتنعة به ـ بلبس الحجاب أو الشادور ـ وذلك فقط لكي تطبق «الثورة» شعارها كـ «ثورة إسلامية».
> > >
الشاهات الجدد
لم يبد في سيرة شيرين عبادي ما يدل على انها امرأة من حديد رغم انها ـ بما فعلته ـ كانت أقوى من ذلك بكثير، ولكنها فعلت فعل الحديد برقة وإنسانية وشفافية.
امرأة عادية لها بيت وزوج وتقوم بشؤون البيت، وتحلم بالحمل والإنجاب، اللذين تأخرا، ولكنها حملت وأنجبت ابنتين «نيفار» و«نرجس».
وكانت امرأة ملتزمة دينيا، تؤدي فروضها جميعا ولم تكن ناقدة فيما يتصل بالدين، إلا فيما يخالف تعاليم الدين من تفسير أو تأويل استغلته الثورة الإسلامية لتطبيق تعاليم الإسلام بصورة مشوهة، أو حينما يقفز الجاهلون بالدين الى منصة الحكم باسم الدين.
ترى ان الإسلام قابل للتكيف في كل الأزمنة والعصور، إذا ما ابتعد الجهلاء عن الحكم باسمه والمتزمتون والذين لا يرون في الدين إلا التضييق والتشدد والتفسير الحرفي وغير القابل بالتزامن والتكيف.
هذه خلفية عن هذه المرأة، تساعد على كشف حقيقتها وتدل على سلامة موقفها وعدالة شهادتها على ما يحدث في إيران تحت ظل الثورة الإسلامية.
فلم تكن «شيرين» من أبناء القصور وأتباع الشاه المتمرغين بخيراته وعطاءاته وهباته، بل كانت تشارك في كل ما يقوّض نظامه وينتقده.
كما انها ليست من الطبقة الرافضة للثورة ضد الشاه، ولكنها لم تكن تدري ان الثورة «ستولّد.. شاهات» كثرا.
هنا.. غمست «شيرين» قلمها، بدواتها لتكتب مذكراتها أو ما يشبه المذكرات في كتابها ذاك.
> > >
بين الحرية والاستعباد
وسألتقط هذا المقطع من كتابها الذي تتحدث فيه عن الوقت الذي بدأت فيه إرهاصات الثورة تظهر وتتجاوب مع ما كان يبثه «الخميني» من أشرطة وهو في منفاه الباريسي، حيث طالب الإيرانيين بطرد الوزراء من مكاتبهم.
تقول: وقد تلاقى عدد من القضاة وموظفي المحكمة في بهو الوزارة، وانضممت اليهم، ثم جمعنا أنفسنا وتولينا تحفيز بعضنا بعضا، واندفعنا الى مكتب وزير العدل، كان الوزير غائبا، وأحد أقدم القضاة يجلس خلف مكتبه، نظر الينا بدهشة وتوقف عن التحديق بنا عندما رآني، سألني حائرا ومتجهما: أنت؟ أنت من بين جميع الناس لم أنت هنا؟ ألا تعلمين انك تدعمين اناسا سينتزعون منك وظيفتك إذا وصلوا إلى السلطة؟ أجبت بجسارة والشعور بصواب ما أفعل يبلغ أعماقي: «أفضل أن أكون إيرانية حرة على أن أكون محامية مستعبدة».
وتنهي هذه الفقرة بقولها: بعد أعوام، كنا كلما التقينا ـ القاضي وأنا ـ يذكرني بهذه «الملاحظة القدرية».
> > >
ربما الموت أفضل
ينضح كتاب «شيرين»، بالكثير الكثير من المآسي الإنسانية.
وتورد قصة «فؤاد» الشاب ذي السبعة عشر عاما. وهو أخو زوجها.
قصة مأساوية.. تقطر دمعا.. ودما.
جريمة «فؤاد» أنه كان يبيع الصحف أو يوزع خلسة الصحف التي تحمل آراء منظمة مجاهدي خلق. حاكموه محاكمة صورية.. وحكموا عليه بالسجن عشرين عاما.
مازال الأمر مقبولا.. ولكن ما هو ليس بمقبول أن يقوموا بتعذيبه وضربه في السجن فيكسرون فكه.. ثم يتصلون بأسرته ليخبروها بذلك.. وإذا ما كانوا يريدون علاجه.. فعليهم إرسال المال اللازم لذلك.
وحادثة أخرى.. عذبوه فيها حتى كسروا ذراعه.. ليقوموا من جديد بالاتصال بأهله مطالبينهم بإرسال المال لعلاج فؤاد الذي تتدلى ذراعه المكسورة إلى جانبه.
بعد ذلك.. تتلقى أم فؤاد السبعينية العمر اتصالا من السجن:
هل كان لديك ابن اسمه فؤاد؟
طبعا.. نعم فؤاد أصغر أبنائي.
إذن قولي لأبيه أن يتقدم إلى سجن اي?ين غدا..
والده توفي قبل بضعة أعوام.
حسنا قولي لشقيقه أن يحضر.
وأقفل الخط.
قتلوا.. فؤاد بعد سبعة أعوام في السجن وألزموا أهله بعدم إقامة عزاء له وأن يراجعوهم بعد عام.. ليدلوهم على قبره.
> > >
أريد جلّادة.. لو سمحت
قصة «ثريا» لا تخلو.. رغم طرافتها من مأساة تكشف ذلك الواقع المزري الذي يعيشه الإيرانيون في ظل نظامهم «الإسلامي».
كانت «ثريا» الفتاة الإيرانية تعيش في الخارج أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية ولما خمدت الحرب عادت إلى بلادها لزيارة أهلها، يرافقها خطيبها واثنان من أصدقائهما الذكور وبينما هم في جولة في قريتها أوقفتهم دورية فرع من فروع الشرطة يسمى «الكميتة» وطلب منهم أحد أفرادها فتح صندوق السيارة الخلفي ولما كانوا جاهلين بسطوة هذه الفرقة العسكرية وسلطتها غير المحدودة فقد قال أحد المجموعة.. افتحها بنفسك. مجيبا فرد الدورية.
«افتحها بنفسك» هي الجريمة التي اقترفتها مجموعة ثريا. والتهمة جاهزة «جواسيس».
ثريا فتاة جميلة.. وبهر حسنها القاضي المزعوم الذي يحاكمها وهو رجل دين معمم فقال لها إذا اعترفت.. أخذتك زوجة مؤقتة لي «زواج متعة»!
حكم عليها القاضي بالجلد فتصدت له.. ألا تعلم يا حضرة القاضي.. أنه لا يجوز جلد المرأة إلا من قبل امرأة.. كما تنص الشريعة التي تزعم أنك تحكم باسمها وبنصوصها.
> > >
الخُفُّ حرام
ومن الطرائف المأساوية.. حين تم القبض على صاحبة الكتاب «شيرين عبادي» بحجة عدم التقيد بـ «اللباس الشرعي» رغم أنها كانت ترتدي سترة طويلة تغطي جسدها كله وتحتها بنطلون واسع فضفاض وتغطي رأسها بحجاب، والأعجب تلك المعلمة التي رافقتها في الحافلة وكانت جريمتها أنها كانت تضع بقدميها خفا أو «نعالا» وتلك جريمة فطالبتهم بإثبات قرآني أو ديني ينص على أن انتعال الخف حرام؟
وفي المعتقل جاءوا إليهما بصبية تبلغ ثمانية عشر عاما لتعظهما وترشدهما الى الصواب رغم أن إحداهما معلمة والثانية «شيرين» قاضية ومحامية وعمرها خمس وأربعون سنة.
> > >
وما خفي أعظم وأدمى
ولعل المأساة تبلغ ذروتها.. وتتأبى الكلمات على وصف الحالة.. أو رواية القصة. كلما دنوت من مأساة الطفلة «ليلى فتحي» البالغة أحد عشر عاما التي اغتصبها ثلاثة من عتاة المجرمين.. ثم ألقوها بعدما ضربوا رأسها بقطعة صلبة من حافة شاهقة لتموت حاملة دنسهم ونجاستهم.
قبض على المجرمين الثلاثة.. الأول قالوا إنه انتحر في السجن وتشكك الكاتبة في ذلك والآخران حكم عليهما بالإعدام.
تقول «شيرين» إن إيران الثورية الإسلامية، تطبق قانونا غريبا يعتبر حياة المرأة تساوي نصف حياة الرجل، وفي نظام «الدين الإسلامي الذي تسير عليه إيران فإن المحكمة طالبت اسرة الفتاة ليلى بأن يأتوا بآلاف الدولارات لتمويل تنفيذ الحكم وهو ما اقتضى من والد ليلى الفقير أن يبيع كوخه الطيني «منزلهم» وجميع ما يملك ليحاول تسديد ثمن الحكم وحتى يسترد شرفه المهدور من قبل الاشقياء الثلاثة ـ أولا ـ ومن المحكمة ـ ثانيا ـ ولكن المال لم يكن كافيا ما اضطر الوالد معه إلى محاولة بيع كليته، ولكنه ايضا أخفق في ذلك، وكذلك حاول شقيقها ولم يفلح ايضا.
«شيرين» كانت طرفا في قضية «ليلى» كمحامية متطوعة، ولكنها اخفقت أمام جبروت هذا النظام القضائي القاسي والقراقوشي في تعديل ميزان العدالة المائل، الذي وقف في صف المجرمين ضد ضحيتهم.
والقضية تنطوي على تفاصيل دامية وكثيرة التشوهات وغيرها كثير وكثير يضيق المجال هنا عن ذكره.
> > >
الثورة تأكل أخواتها
هذه ليست رسالة أوجهها لأنصار النظام الإيراني، والذين يرحبون بـ «تصدير ثورته» وملاقاتها في منتصف الطريق.. ولكنها مجرد استعانة بشهادة «شاهد من أهلها» لم تكن معارضة للنظام في الخارج.. بل انها تكتب شهادتها من الداخل وتروي وقائع هي طرف فيها في أغلب الاحوال وهي بنت لتلك الثورة التي أكلت أخواتها.. كما تقول المؤلفة.
وهي رسالة أحببت أن أطلع عليها «ناشطاتنا» في القطاعات كافة، وماذا يمكن للمرأة أن تفعل في مجتمعها.. فليس يكفي أن تكون مجرد صورة وتصريح ومنصة تتلهف على التصفيق من أيد تجمع الهواء.
[email protected]