لا شك أن القرآن الكريم عظيم في تدبراته وفي فصاحته وبلاغته، وأسلوب العرض فيه أرفع من الشبهات، أحيانا أجلس في مجالس يعتريها التعالم دون العلم الصحيح بالشيء، والفكر الغائب عن الوعي أجارنا الله فيما قرئ دون البحث فيه، فهناك الكثير من التفاسير القرآنية المتداولة بين الناس اسرائيليات الأصل، أي أن بها الكثير من علامات الاستفهام، ولكن الله عز وجل أمرنا بتدبر القرآن والتفكر به ليس فقط بفكرنا وإنما بإحساسنا وإحساننا عند قراءته.
في يوم عشناه ومضى دار نقاش بيني وبين المحيط الذي كنت متواجدة فيه، حول الآية الكريمة (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ـ طه:121)، فكان الحديث يدور حول أن آدم وحواء عليهما السلام عندما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها انكشفت عوراتهما فأخذا يسترانها بورق الجنة، وهذا التفسير خاطئ، أعارضه وبشدة، لأن القرآن أرفع من هذا الوصف والتفسير، فهي من الإسرائيليات، ولأن آدم مكرم من قبل العزيز القدير وهو يقطن في الجنة وكان في نعيم ويخاطبه الله عز وجل قائلا (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ـ طه:118)، حيث يفسرها الشيخ محمد الشعراوي رحمه الله بتفسير جميل يرتقي بتدبرات العلماء وخشيتهم من العزيز القدير، فيقول رحمه الله أن أبانا آدم وأمنا حواء عندما أكلا من الشجرة التي نهى الله عنها (فبدت لهما سوآتهما) أي بدأ التغير الفسيولوجي في جسم أبينا آدم وأمنا حواء والتي انتقل من الكمال إلى نقصه أي أن عملية الهضم والأيض أصبحت كأهل الدنيا بعدما كانا منزهين عن تلك الأمور، أما (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي اخذا يستروا ما بدر منهما بورق الجنة هذا والله أعلم حسب تفسير الشيخ محمد الشعراوي، ولكن لايزال هناك الكثير من الحقائق الغائبة عن أذهان العلماء ولا عجب في ذلك فهو لكل زمان ومكان، كما أنه يجب الاجتهاد في «ورق الجنة» فالله عز وجل لم يذكر أنه ورق الشجر وإنما اكتفى سبحانه وتعالى بقوله «من ورق الجنة»، كما أن للغة العربية جذور كثيره وتعبيرات اعجازية في تفسير وترجمة معانيها.
والحكمة من بلوغ المراد هو عناية انتباه قارئي العزيز أن القرآن الكريم أبدا لا يخاطب عقل البشر بالخيال الفاضح وإنما بالعلم المستتر البالغ في اعجازه، فالسياق القرآني في سرد الأحداث مستقيم يرتقي في مخيلة القارئ، كما أن السياق القرآني راق جدا في نقل الأحداث عن الأنبياء والمرسلين وبإحسان كبير من عزيز حكيم.
وعلى سبيل مثال آخر في القرآن الكريم، يقول الله عز وجل في محكم كتابة (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ـ النمل:44)، ففي الفكر السائد بين الناس في تفسير هذه الآية الكريمة وما صنعته الإسرائيليات من قصص سطحية أن بلقيس عليها السلام عندما رأت الصرح حسبته لجه أي ماءا فكشفت عن ساقيها وأنها حيلة من سيدنا سليمان.. إلخ التفسير، وهذا خطأ كبير، فهل يعقل كما ورد في الإسرائيليات والذي مازال في تداوله بين الدعاة أن بلقيس وهي زوجة النبي سليمان عليه السلام تكشف عن ساقيها أمامه قبل زواجها منه وإيمانها بدعوته وهو (نعم العبد إنه أواب ـ ص:30) فهل يعقل أن تكون هذه أخلاقيات نبي، وهل هذا التفسير يتفق مع السياق القرآني المستقيم في سرد الأحداث والقصص، بالطبع لا، والتفسير الصحيح هو أنها رأت صرحا ممردا أي صرحا عاليا جدا من قوارير أي زجاج فكشفت عن ساقيها أي أشتد بها هول المنظر وليس الكشف عن الساق، وذلك لأن العرب قديما كانوا يقولون «كشف الأمر عن ساقه» أي اشتد الهول وكما جاء في القرآن الكريم (والتفت الساق بالساق ـ القيامة:29) وتعني الآية الكريمة اشتداد الهول على الميت، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
family_sciences@