كانت منصات التعبير عن الرأي في الماضي محدودة جدا بحكم ضيق الميديا التي كانت تنحصر في مجالات الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وكان أصحاب الفكر والرأي يعرضون أفكارهم على الناس عبر هذه الوسائط أو مباشرة في المحاضرات والمنتديات الفكرية. وقت كان الكاتب أو المحاضر يتميز بتحصيله المعرفي وقدرته على تسخير المعلومات، وكانت الميديا تعبر عن رأي الناس نيابة عنهم، فراجت بينهم شعارات مثل «صوت من لا صوت له» أو «صوت الجماهير» حتى داهمت ثورة الاتصالات العالم وعرفت الجماهير «ديموقراطية الرأي» التي فصلت بين الفكرة والقدرة على التفكير (!) فأمست الأفكار الرائجة هي الأفكار المتولدة خارج العقل.
>>>
حققت ثورة الاتصالات للناس حلمهم المخادع المسموم القائل بحرية التعبير. فمكنت البشر جميعهم، صغارهم وكبارهم، عقالهم وجهالهم، من التعبير وإبداء الرأي دون اشتراطات مسبقة، وصار بإمكان أي شخص أن يعبر عن رأيه في مواقع الإعلام الاجتماعي وان كان هذا الشخص غاية في السذاجة، أو آية في فقر المعلومات وقلة التجربة أو عماء البصيرة. وقد يسيطر رأيه الساذج على العقول ويقودها ويوجهها مثلما يفعل سائق السيارة مع فارق ان قيادة السيارة تستدعي التدريب وحيازة الترخيص. وكل ذلك بسبب الديموقراطية التي تنطوي على خديعة كبرى اسمها «حرية التعبير» عن الرأي وان كان رأيا فاسدا.
>>>
وفرت ثورة الاتصالات إمكانية التلاعب بالعقول. ولأن الناس تتبع الأكثرية وتخضع لمفهوم القطيع عرف الإعلام الاجتماعي شراء المتابعين عبر الحسابات الوهمية. كما تمكنت الجهات النافذة من الترويج لبعض الأفكار لتوجيه الجماهير، وبعض تلك الأفكار ينطوي على شرور عظيمة. وجميعنا شهود على ما حدث في ثورات «الجحيم العربي» وأصبح صاحب الرأي الرصين يخجل من التعبير عن رأيه مثلما يخجل من رجاحة عقله. وأمسى الأب الطيب الحنون حين يرزق بابن يدعو له بالنجاح في حياته فيرفع يده إلى السماء قائلا: يا رب احرم ابني من نعمة العقل واجعله من الساذجين التافهين!
www.salahsayer.com
salah_sayer@