هذه مصر الكرامة وأرض الكنانة، هذه بلد الهرم والنيل، هي المحروسة والقاهرة، هي بلد المسلمين والأقباط وهي بلدي وبلد كل عربي، هي بلد القلعة والألف مئذنة، هي موطن الثورة والقومية، هي بلد أحمد عرابي وسعد زغلول وطه حسين وعبدالحليم وأم كلثوم، هي بلد البارودي وحافظ وشوقي، هي بلد محفوظ والعقاد وعبدالقدوس، مصر ليست ملكا لأحد فهي أم الدنيا، وأبناء هذا الجيل أبوا إلا أن يكونوا جزءا مهما من تاريخها، فشباب مصر الذي ملأ شوارعها وحواريها وافترش الأرض في ميدان التحرير لن يرضى بما احتواه الخطاب الأخير للرئيس المصري حسني مبارك والذي وعد فيه بعدم ترشحه للانتخابات المقبلة، وبتعديل بعض مواد الدستور. فالرئيس مبارك أعلن وبكل وضوح أنه لن يتنازل عن السلطة وسيكمل الفترة المتبقية من ولايته، وهو ما يخالف المطلب الأساسي للملايين التي تظاهرت في «يوم الغضب» ثم في «جمعة الحسم» ثم في «مسيرة المليون» والآن «جمعة الرحيل».
فما فعله أحرار مصر لا يحتمل التراجع، فالباب لم يفتح بل خلع وهشم وأحرقت مخلفاته، فلا عودة ولا رجعة لما مضى من أيام التوحد بالسلطة، وما طالب به شباب مصر هو أبسط حقوق البشر، وهو أغلى حقوق البشرية. شباب مصر أراد حريته، أراد أن يكون حرا في اختيار قادته ومحاسبتهم، أراد أن يكون حرا بالمشاركة في العملية السياسية بأن ينتقد وأن يعارض ويجادل، وأن يعتصم للمطالبة بحقوقه من دون أن يضرب ويسجن ويعذب ويختفي في سراديب السجون السياسية ليلقى مصيرا اسوأ من الموت.
شباب مصر الذي سار على درب شباب تونس يكتب تاريخه بيديه، فلا خوف من سلطان ولا خوف من سلاح وعتاد، فالموت في سبيل الوطن هو حلمهم، وهاهم قد أسمعوا «النظام الحالي» مطالبهم وسيستجيب لها عاجلا أو آجلا، أبى أم شاء. بل إن شباب مصر أرغم الولايات المتحدة والغرب على الاستماع لمطالبهم، ففي الأيام الأولى من المظاهرات كانت السلطة الأميركية متخوفة من هذه التظاهرات وكانت، رغم اعترافها بضرورة احترام حق التظاهر، إلا أنها تفضل حاكما مواليا لها وإن كان شعبه رافضا لحكمه، وها هي أميركا الآن ترضخ وتطالب مبارك بانتقال سلس للسلطة لتكون بيد الشعب، فيا فخر العرب فيكم يا مصريون.
ثورتكم يا شباب مصر ليست ثورة أحزاب سياسية أو مطامع عسكرية، بل هي ثورة الحواري والأزقة والشوارع، وهي ثورة التكنولوجيا و«التويتر» والـ «فيس بوك»، ثار فيها الغني والفقير والدكتور والأمي، ثار فيها المزارع والمهندس، والشيوخ والشباب والفتيات، ثورتكم يا شباب مصر ليست ثورة خارجية مدعومة من دولة أجنبية بل هي ثورة وطنية قومية شعبية لا تليق إلا ببلد مثل مصر، ثورتكم سترسل رسالة شديدة اللهجة وواضحة المعنى لباقي حكام الدول العربية والغربية بأن يدركوا قوة شعوبهم وأن يسعوا الى حل مشاكلهم ومآسيهم باتباع نهج إصلاحي شامل وجذري، يقول تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)، والله ولي التوفيق.
يقول البارودي في قصيدته «العودة» والتي نظمها بمناسبة رجوعه لمصر بعد أن قضى قرابة 20 عاما في المنفى:
أَبَابِـلُ رَأْيَ العَيْـنِ أَمْ هَذِهِ مِصْــــــر
فَإِنِّي أَرَى فِيهَا عُيُونَاً هِيَ السِّحْرُ
نَوَاعِسَ أَيْقَظْنَ الهَوى بِلَوَاحِظظٍ
تَدِينُ لَهَا بِالفَتْكَةِ البِيضُ وَالسُّمْرُ
[email protected]