قبل تولي رئيسة بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر رئيسة حزب المحافظين لمقاليد الحكم، كان حزب العمال قد حول بريطانيا إلى دولة اشتراكية من خلال تأميم أغلب المرافق الرئيسية في بريطانيا مثل خدمات المواصلات «القطارات + الباصات»، خدمات الغاز، الخطوط البريطانية، بريتش بتروليوم ..الخ، وعليه سقط الاقتصاد البريطاني سقوطا كبيرا، واثر على قدرة بريطانيا على المنافسة اقتصاديا، وأيضا تحولت الخدمات إلى البيروقراطية الحكومية فتقادمت وتأخرت وأصبحت لا تطاق، وعندما تولت تاتشر الحكم كان خيارها لتطوير الاقتصاد البريطاني والخدمات الحكومية، أن تختار خيار إعطاء القطاع الخاص الخدمات الحكومية لإدارتها، وتطوير خدماتها، وأيضا توفير وظائف للبريطانيين كون القطاع الخاص قد تفوق بمراحل كبيرة جدا في أمور الإدارة والتطور التكنولوجي على القطاع العام، وتطوير الخدمات بصورة كبيرة، ولم تعد الحكومات بأنظمتها البيروقراطية قادرة على تطوير الخدمات العامة، فكانت تاتشر أول رئيسة وزراء في العالم تطلق برنامج الخصخصة، وهو إعطاء القطاع الخاص الفرصة لإدارة المرافق الحكومية (باستثناء الجيش والشرطة والخارجية)، ولقد اتبعت تاتشر السياسات التالية:
1 - الرأسمالية الشعبية: وهي إتاحة الفرصة لجميع المواطنين للاستفادة من مشروع الخصخصة، وإتاحة الفرصة لهم وبالأخص الطبقة الوسطى ليصبحوا أثرياء، فكانت أن طرحت المشاريع الحكومية على شكل شركات مساهمة، وقامت بطرح الأسهم بشكل رخيص تكون في متناول يد الجميع، فمثلا طرحت أسهم شركة بريتش بتروليوم بقيمة نصف جنيه إسترليني، وهكذا بقية الشركات، وأيضا قررت تشجيع المواطنين على عدم بيعهم للأسهم من خلال إعطاء حاملي الأسهم خصما خاصا على الخدمات المقدمة، فمثلا في الغاز تأخذ سعرا خاصا غير سعر البيع لأنك حامل للأسهم مما يشجع المواطنين على الاحتفاظ بالأسهم المخصصة لهم، وبهذا اصبح مئات الآلاف من البريطانيين من اصحاب الملايين.
2 - ضمان حقوق العاملين: وذلك من خلال تخصيص نسبة عادلة من الأسهم تتيح لهم الدخول في مجلس إدارة الشركة للحفاظ على حقوقهم، هذا بالإضافة إلى إعطائهم نسبة أكبر بالأسهم المخصصة، فمثلا إذا كان الحد الأعلى للمواطن 1000 سهم فيكون للعامل بالجهة 5000 سهم.
3 - ضمان المنافسة: وذلك من خلال الطلب من الشركات المخصصة لها المرافق الحكومية أن يسمحوا للشركات الأخرى باستخدامها مثل النقل بالباصات، لاستعمال محطات الباصات، وهكذا بالإضافة إلى إتاحة الفرصة للعاملين لتكوين شركات والمنافسة على المرافق المخصصة مع شركات القطاع الخاص، فإذا جاءت شركات أو نقابات العاملين بأسعار أقل ووفق المواصفات المطلوبة للجودة، يأخذون إدارة المرافق لهم وهذا حدث بالأخص مع شركات النظافة بالبلدية.
4 - ضمان الجودة: وبعد تخصيص المرافق العامة لضمان الجودة من الشركات المقدمة للخدمات أعطت المواطنين الحق في الرقابة على جودة الخدمات والشكاوى من خلال إنشاء ميثاق المواطن الذي يحدد معدلات الجودة للخدمات الحكومية، والشركات التي لا تفي بهذه المعدلات تحاسب، وأيضا إعطاء المواطن الحق في الشكوى بشأن الخدمات المقدمة من خلال إنشاء أنظمة شكاوى فاعلة.
5 - عدم إتاحة الفرصة للأموال الأجنبية: وذلك عندما اشترى مكتب الاستثمار الكويتي كمية كبيرة من أسهم شركة بريتش بتروليوم أتيح له السيطرة على مجلس الإدارة، طلبت الحكومة البريطانية منه تخفيض مساهمته إلى 8% فقط.
وكان من نتائج سياسة الخصخصة التالي:
- تفوق الشركات البريطانية محليا ودوليا، فالخطوط البريطانية أصبحت أفضل شركة طيران بالعالم، وأيضا البريتش بتروليوم.
- تطوير الخدمات العامة، فمثلا القطارات لم تعد تتأخر، بل ان الشركة المنفذة فرضت شروطا لصالح المستهلك بأنه إذا تأخر القطار عن موعده خمس أو عشر دقائق يعطى الراكب تذكرة مجانية.
- توفير الوظائف للبريطانيين.
- عودة الاقتصاد البريطاني إلى حجمه الطبيعي، والمنافسة الدولية على المراكز المتقدمة.
هذه السياسة الرائعة والفكرة المبدعة في إدارة الخدمات العامة، جعلت العالم أجمعه يطير بالفكرة ويبدأ بالتخصيص وهكذا المنظمات الدولية مثل البنك الدولي، والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي أصبحت توصي بإتباع سياسة الخصخصة في إدارة المرافق العامة، وظهرت هناك تجارب عديدة ناجحة أخرى على مستوى العالم ويهمنا هنا ماليزيا، ونيوزيلندا اللتان تتشابهان معنا في الاعتماد على الموارد الأولية لدعم اقتصاديهما وميزانياتهما العامة، فكان أن قررت ماليزيا أن تبعد هذه الهيمنة وأن تنشئ اقتصادا متنوعا، وكانت إحدى الأدوات الرئيسية في بلوغها هذا الهدف اتباعها المنهج البريطاني ولكن بشكل متشدد أكثر في حماية العمالة، والأسعار، فأنشأت لجنة لمراقبة أسعار الخدمات العامة ووضعت نسبة للزيادة لا تزيد عن 0.5% ووضعت شروطا لضمان توظيف العمالة الماليزية في القطاع المخصخص وأن تكون رواتبهم أكبر من الرواتب التي كانوا يتقاضونها في القطاع العام، ونجحت ماليزيا في الخروج من سيطرة بيع المواد الأولية على اقتصادها لتصبح الآن اقتصادا صناعيا، تكنولوجيا، خدماتيا «الاستثمار والمصارف»، ونيوزيلندا أيضا كانت تعاني من سيطرة بيع المواد الأولية على اقتصادها فاتجهت إلى الخصخصة والآن استطاعت بعد عقدين الخروج من هيمنة المواد الأولية على اقتصادها، والكويت تتشابه مع الحالات السابقة إذ بسبب إيرادات النفط مازلنا في المربع الأول منذ 40 سنة وهو سيطرة قطاع النفط على الاقتصاد الوطني وإيرادات الدولة إذ تبلغ نسبة دخل النفط 85% من ميزانية الكويت، وأيضا الحكومة هي المالك الأكبر للاقتصاد وإنفاقها هو الذي يحدد انتعاش الاقتصاد من عدمه، وأيضا الحكومة هي المورد الأول وشبه الوحيد لتوظيف العمالة الكويتية والحكومة اليوم أمام مأزق خلال العقد القادم إذ سيدخل سوق العمل 300 ألف كويتي، وفي حالة تعيينهم في الحكومة فإن دخل النفط سيذهب أجمعه إلى الباب الأول من الميزانية وهو باب الرواتب والأجور، فالحل إذن يجب أن تذهب هذه العمالة إلى القطاع الخاص وعليه يجب أن تطور الدولة القطاع الخاص في الكويت من خلال عدة إجراءات أهمها قانون الخصخصة الذي أقره في مداولته الأولى مجلس الأمة يوم الخميس، وبعد قراءته بصورة متأنية وجدت التالي:
1ـ القانون أقر رسميا من الحكومة، وشعبيا من المجلس وعلى رأسهم العم أحمد السعدون الذي دائما يضع في أدائه البرلماني مصلحة المواطن أولا، وهذا يبعث على التفاؤل.
2ـ القانون في توجهه أشد من التوجه البريطاني والماليزي في ضمان مصالح المواطنين واستفادتهم والرقابة على الأسعار والأداء.
3ـ ضمان الجودة وحماية المستهلك، حيث نصت المادة الثانية من القانون، الفقرة (أ) على: حماية مصالح المستهلك من حيث مستوى الأسعار وجودة السلع والخدمات في مجال إنتاج السلع أو الخدمات ذات الطبيعة الاحتكارية أو الإستراتيجية.
4ـ الحفاظ على البيئة، وضمان استخدام أفضل التقنيات والتكنولوجيا.
5ـ إخراج مرفق الصحة والتربية وعدم الخصخصة إلا بقانون بسبب أهمية هذين المرفقين لدى المواطنين.
6ـ القانون أعطى المواطنين جميعا أفضل فرص لتكوين الثروات من خلال طرح 40% من أسهم المرافق المخصخصة للاكتتاب العام، ويفضل هنا أن تراعي الدولة أسعار الأسهم المطروحة للاكتتاب بحيث تكون في الحد الأدنى.
7ـ احتياطي الأجيال القادمة مستفيد 50% من الإيرادات التي تؤول للدولة من تخصيص أسهم المرافق المخصصة.
8ـ الدولة لديها 20% من قيمة الشركات المخصخصة.
9ـ إعطاء الدولة حق السهم الذهبي وهو الذي يخولها دخول مجلس الإدارة والتصويت ضد أي مشروع تظن أنه في غير صالح الدولة داخل مجلس الإدارة.
10ـ أعطى القانون بديلا ولا أروع وهو إمكانية نقل المشروع المخصخص إلى ملكية شركة مساهمة تكون مملوكة للدولة.
11ـ ضمان حقوق المساهمين، وهو من البنود الرائعة في القانون حيث توسع في ضمان حقوق العاملين في المرافق الحكومية المخصخصة من خلال:
أ ـ أن مدة عقد العامل مع الجهات التي آل إليها المشروع ألا تقل عن خمس سنوات.
ب ـ عدم المساس بالمرتب والمزايا العينية التي يحصل عليها إذا ما رغبت الشركة في استخدامه بعد انقضاء السنوات الخمس المذكورة.
ج ـ العاملون الكويتيون الذين يرغبون في التقاعد، يتم منحهم مدة ثلاث سنوات نهاية خدمة تعادل الراتب الأساسي، وتضاف خمس سنوات إلى خدمتهم التقاعدية.
د ـ العاملون الكويتيون غير الراغبين في الانضمام إلى المشروع المخصخص تؤهلهم الدولة وتدربهم وتوظفهم في مؤسساتها.
هـ ـ تحدد الدولة نسبة العمالة الوطنية في كل مشروع.
و ـ تلتزم الشركات بوضع برامج تدريبية تأهيلية للعاملين المنقولين إليها من المشروع العام.
ويعد هذا القانون، حسب رؤيتي، له من أفضل وأكرم قوانين الخصخصة، وينتظر أن يحقق نتائج باهرة لكل من ميزانية الدولة، وتطور الخدمات العامة المقدمة، بالإضافة إلى فرص استفادة المواطنين وتكوين الثروة بالأخص لدى متوسطي ومحدودي الدخل.
[email protected]