منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أصبح لعلم الإدارة شأن كبير لدى الدول المتقدمة والصناعية فهي القاعدة الأساسية التي تنطلق منها هذه الدول في بناء اقتصادياتها ودولها، فكلما ازداد اهتمام هذه الدول بعلوم الإدارة، زاد تقدمها واحتلالها مكانة كبيرة في الاقتصاد العالمي، حتى بلغ بالرئيس الأميركي كينيدي أن يقول خذوا منا كل شيء ولكن دعوا لنا الإدارة، وأيضا يقول العالم الكبير بيتر دركر في كتابه الرائع «الإبداع»: «ان الإبداع إذا لم تصاحبه إدارة اقتصادية أو تجارية فلا فائدة من هذا الإبداع والابتكار» ويضرب مثلا بابتكار الطائرات النفاثة التي بدأت في بريطانيا ولكن تحويلها إلى عمل تجاري والاستفادة منه كان في أميركا التي احتلت سدة هذه الصناعة عالميا.
وفي ثقافتنا وديننا يعتبر القرآن الكريم وسنة نبيه من أعظم قواعد وتطبيقات الإدارة على مر الدهور وفي مستقبل البشرية جمعاء، حيث يعلمنا القرآن الكريم في سورة يوسف أهمية التخطيط وأهمية إدارة الأزمات، وأيضا في سورة الكهف يعلمنا إدارة المستقبل والتعامل الغيبي من خلال القصص التي رويت في هذه السورة الكريمة، كما يعلمنا القرآن الكريم مواصفات القادة في عدة مواضع في القرآن ومنها في سورة البقرة حيث قال المولى عز وجل عن طالوت لما اصطفاه ملكا (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء)، وهكذا في سنة نبيه مثل اشتراط الكفاءة في الولاية عندما منع أبا ذر رضي الله عنه من توليها وقال له انك امرؤ ضعيف، وأيضا تحريمه الرشوة على العمال والمسؤولين عندما قال لابن اللتبية، هلا جلست في بيتك فتنظر أيهدى لك أم لا.
أما في الكويت فالإدارة قديما كانت ناجحة بالرغم من الأسلوب البدائي المستخدم وعدم علم آبائنا بعلوم الإدارة آنذاك إلا أنهم اتخذوا قرارات إدارية واقتصادية وسياسية ناجحة جدا، واستطاعوا تقسيم العمل في المجتمع إلى قطاع سياسي واقتصادي واجتماعي واعطوا لكلٍ مسؤوليته، وأيضا رسمهم لخريطة الاقتصاد وغوصهم على اللؤلؤ، وتجارتهم مع الهند وآسيا وأفريقيا، وهذه جميعا تحتاج إلى رؤية إدارية ناجحة، وأيضا قيامهم بالإدارة الأمنية الناجحة وحمايتهم للكويت من هجمات دول وجيوش تكبرهم حجما بعشرات المرات، ولكنهم نجحوا في صدها ولم تحتل الكويت آنذاك من أي دولة أو قبيلة.
وبعد النفط أداروا التنمية بنجاح ووزعوا الثروة بصورة جيدة، ولكن من أخطائهم انهم عندما استوردوا البيروقراطية العربية لم يضعوها في إطار الإدارة الكويتية واشتراط تعليمهم أبناءنا أمور الإدارة لفترة زمنية محددة، ولذلك عندما مرت الكويت بمرحلة وطنية الإدارة بعد تأسيس مجلس الأمة ثم وضع القياديين الكويتيين على مؤسسات الدولة دون تدريب أو خبرة سابقة اخفقت التنمية لدينا على مدى 3 عقود، ومازلنا حتى اليوم نعاني من غياب الإدارة الفاعلة والمنتجة، ذات النظرة الإستراتيجية مما جعلنا نتأخر في ركب التنمية عن دول كثيرة سبقتنا بعد ان كنا أفضل منها بعشرات المرات بل كنا ندعمها بخبراتنا الإدارية والتربوية والاقتصادية، ولهذا نحن بحاجة إلى مراجعة أنفسنا من الناحية الإدارية وتقييم المرحلة السابقة وتجاوز أخطائها إذا ما أردنا التقدم واحتلال مركز إداري وتجاري عالمي.
مظاهر عدم الاهتمام بالإدارة وانهيار الخدمات الحكومية:
1- احتلال غير الإداريين للمناصب الإدارية في المؤسسات الحكومية:
للأسف من المظاهر التي تدل على الخلل الإداري في الدولة انك تجد مناصب إدارية بحتة تحتاج إلى علم إداري بحت لإدارتها مثل قطاعات التطوير الإداري، وقطاعات الشؤون الإدارية والمالية.
2- الإداريون هم الوحيدون الذين ليس لهم كادر من المهن:
بينما تتفنن الحكومة في إعطاء المهن الأخرى الكوادر والرواتب الخيالية دون إلزام بالإنتاج وتحمل المسؤوليات مثل الأطباء، المهندسين، المحاسبين... الخ، تحرم أصحاب أهم مهنة وهم الإداريون من الكوادر بحجة أنهم متوافرون وزائدون عن اللازم، وهذا غير صحيح بالمرة، فالإداريون قلة في الحكومة وإن كانوا موجودين فهم مصابون بالإحباط واليأس بسبب استيلاء غيرهم على مناصبهم وحرمانهم من المساواة مع المهن الأخرى في نفس المؤسسة (مع ملاحظة أني ضد الكوادر ومع التوصيف الوظيفي الذي يضمن لنا المساواة والعدالة وضمان الإنتاجية).
3- ضعف التمثيل الإداري في الوزارات الفنية:
ويلاحظ أن الوزارات التي يغلب عليها العمل الفني مثل البلدية، الأشغال، الكهرباء، والصحة ترى فيها ضعف التمثيل الإداري، وترى المناصب الإدارية فيها مثل التطوير الإداري محتلة من الفنيين ولذلك تعاني أغلب هذه الجهات من غياب الرؤية الإستراتيجية والضعف التخطيطي ولذا ترى مؤسساتنا متأخرة في خدماتها، وما مشكلة الكهرباء إلا دليل على ضعف التخطيط وغياب الفكر الإداري الإستراتيجي في إدارتها، وعندما كنت طالبا في أميركا ادرس الماجستير كنا نرى معنا دكاترة (الأطباء) وكبار الممرضات يدرسون الإدارة الصحية public health حتى يتمكنوا من إدارة المستشفيات من خلال الحصول على ماجستير الإدارة الصحية.
وعندنا في الكويت نرى التدهور في الخدمات الصحية، والسؤال: لماذا غياب المهارات الإدارية والقيادية، وترك المجال الطبي للعمل الإداري من غير علم ولا تدريب؟ والنتيجة تدهور الخدمات الصحية لأن هذا ليس مجالهم فمجالهم الطب وبس، وإذا أراد أحد منهم الدخول في المجال الإداري فعليه دراسة الإدارة الصحية للوصول إلى المنصب الإداري.
4- عدم إتاحة الفرصة للإداريين لتطوير الخدمات وتطوير الإدارة الحكومية:
نرى غالبا هناك أزمات إدارية كبيرة تواجهها الحكومة وكان الأولى الاستعانة بالمتخصصين بالإدارة لحل هذه المشاكل الإدارية بكل مهنية وإخلاص ولكن للأسف لا حياة لمن تنادي ويستعان بالمستشارين الأجانب ويهمل تماما العنصر الوطني مع قدرته على الأداء، ومن خلال ممارستي لمهنة خبير ومستشار إداري في المؤسسات الحكومية فإننا نعامل بشكل غير تقديري في هذه المؤسسات وترانا نقف على أبواب بعض المسؤولين الذين لا يعرفون معنى الإدارة لإقناعهم بالحلول الإدارية التي نقدمها، وإعطائنا القليل جدا من الحوافز المالية.
وغالبا ما نطالب بالخدمة الوطنية من غير مقابل مع أن الأجانب والمستشارين الفنيين تغدق عليهم الأموال يمنة ويسرة مقابل عطاء قليل، ونرى أمام أعيننا المناصب الإدارية المهنية تعطى لفلان ولفلان لأنه ولدنا أو ممثل لقبيلة أو عائلة أو تجمع سياسي معين وليس لأنه يتمتع بالكفاءات الإدارية، ويبدو أن مبدأ المحاصصة والواسطة فوق القانون تقتل إدارتنا الحكومية.
5- ضعف التدريب الإداري:
في الولايات المتحدة وبالتعاون مع الجامعات الأميركية تم إعداد ماجستير الإدارة mba لإعداد القادة في القطاع الخاص، وتم إعداد ماجستير الإدارة العامة mpa لإعداد القادة في القطاع العام ومن قرأ مذكرات شوارتزكوف ومذكرات كولن باول القائدين الأميركيين اللذين قادا حرب تحرير الكويت فإنهم لم يأخذوا الجنرالية إلا بعد أن أتموا دراسة ماجستير الإدارة العامة في جامعة جورج واشنطن، وحري بنا أن نقوم بالتنسيق مع الجامعات المحلية لبناء هاتين الدرجتين العلميتين ونمنع أي وكيل مساعد من الحصول على هذه الدرجة إلا بعد الحصول على ماجستير الإدارة العامة، وأيضا في مجال الشركات العامة، والمديرين العامين ونوابهم يشترط حصولهم على ماجستير الإدارة لضمان تمتع هؤلاء القادة بالمواصفات والقدرات الإدارية المطلوبة.
6- لا توجد شروط إدارية لشغل المناصب القيادية:
وهذه من الكوارث التي نعيشها فمازالت المناصب القيادية لدينا لا يوجد مواصفات لشغل الوظيفة وتعتمد على ترشيح الوزير وموافقة مجلس الوزراء، والأولى وجود قانون لشغل هذه المناصب يشترط شروطا إدارية مهنية لدى شاغلها مثل القدرة على التخطيط والتنفيذ، القدرة على اتخاذ القرار، القدرة على مواجهة الأزمات.. الخ، كما يطلب منه قبل تولي منصبه وضع تصوراته لتطوير القطاع الذي سيشغله وخطته ومن ثم بعد 5 سنوات تتم محاسبته عليها وتقييم أدائه من خلالها، وهكذا نضمن قيادات فاعلة لأجهزتنا الحكومية.
د. وليد عبدالوهاب الحداد
[email protected]